للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} ، وتنادي أخرى: {هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ} ، وتستغيث أخرى: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَل} ، وتقول أخرى: {رَبِّ ارْجِعُونِ} ، فرحم الله من نظر لنفسه، قبل غروب شمسه، وقدَّم لغده من أمسه، وعلم أن الحياة تَجُرُّ إلى الموت، والغفلة تقود إلى الفَوْت، والصحَّة مَرْكَب الألم، والشبيبة سفينة تَقْطَع إلى ساحل الهرم".

وإن شاء قال بعد الخطبة:

"إخواني، ما هذا التواني؟ والكلَف بالوجود الفاني، عن الدائِم الباقي، والدهر يقطع الأماني، وهادم اللذات قد شرع في نقض المباني، ألا معتبر في عالم هذه المعاني، ألا مرتحل عن مَغَابِن هذه المَغَانِي١؟

ألا أُذُنٌ تصغى إليّ سَمِيعة ... أُحَدِّثُها بالصدق ما صَنَع المَوْتُ

مددتُ لكم صوتي فأوَّاه حسرةً ... على ما بدا منكم فلم يُسْمَع الصوت

هو القَدَر الآتي على كل أمة ... فتوبوا سِرَاعًا قبل أن يقع الفَوْتُ

يا كَلِفًا بما لا يدوم، يا مفتونًا بغرور الوجود المعدوم، يا صَرِيع جدار الأجل المهدوم، يا مشتغلا ببنيان الطُّرُق قد ظهر المناخ وقَرُبَ القُدُوم، يا غريقًا في بحار الأمل ما عساك تعوم! يا مُعَلَّل الطعام والشراب، ولَمْعِ السَّرَاب٢، لا بد أن تهجُر المشروب وتترك المطعوم، دَخَل سارقُ الأجل بيتَ عمرك فَسَلب النشاط وأنت تنظر، وطَوَى البساط وأنت تُكْرَب٣، واقتلع جواهر الجوارح، وقد وقع بك النَّهْب، ولم يَبْقَ إلا أن يجعل الوسادة على أنفك ويقعد:

لو خُفِّفَ الوجْدُ عني ... دعوتُ طالب ثاري

{كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} ، كيف التَّرَاخي والفوتُ مع الأنفاس يُنْتظر،


١ المغاني: جمع مغنى وهو المنزل.
٢ السراب: ما يرى وسط النهار كأنه ماء.
٣ كربه الغم كنصر: اشتد عليه.

<<  <  ج: ص:  >  >>