للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كيف الأمان وهاجِم الموت لا يبقى ولا يَذَر، كيف الركون إلى الطمع الفاضح وقد صَحَّ الخبر؟ من فكَّر في كرب الخُمار١ تَنَغَّصَت عنده لذةُ النبيذ، من أحَسَّ بلفظ٢ الحريق فوق جداره، لم يُصْغِ بصوته لنغمة العود، من تَيَقَّنَ بِذُلّ العُزْلَةِ، هان عليه ترك الولاية.

ما قام خيرك يا زمان بشرِّه ... أولى لنا ما قلَّ منك وما كَفَى

أوحى الله سبحانه إلى موسى صلوات الله وسلامه عليه: أن ضَعْ يَدَك على مَتْنِ ثور فَبِعَدَد ما حاذته من شعره تعيش سنين، فقال يا رب وبعد ذلك؟ قال: تموت، قال: يا ربا فالآن.

رأى الأمر يُفضي إلى آخرٍ ... فصيَّر آخِرَه أوَّلا

إذا شعرت نفسك بالميل إلى شيء فأعرض عليها غُصَّة فِراقه {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} فالمفروح به هو المحزون عليه، أين الأحباب مرُّوا؟ فيا ليت شعري أين استقروا؟ استكانوا والله واضطرُّوا، واستغاثوا من سَبَقَك٣ بأوليائهم ففرُّوا، وليتهم إذ لم ينفعوا ما ضرُّوا، فالمنازل من بعدهم خالية خاوية، والعروش ذابلة ذاوية، والعظام من بعد التفاصل متشابهة متساوية، والمساكن تَنْدُب في أطلالها الذئابُ العاوية.

صِحْتُ بالرَّبْع فلم يستجيبوا ... ليت شعري أين يمضي الغريب؟

وبجنب الدار قبر جديد ... منه يستسقى المكان الجَدِيب

غاض قلبي فيه عند التماحي ... قلت: هذا القبر فيه الحبيبُ٤

لا تَسَل عن رجعتي كيف كانت ... إن يوم البَيْن يوم عصيب


١ الخمار: صداع الخمر وأذاها.
٢ أي برميه.
٣ هكذا في الأصل، وكان يمكن أن يقول: "واستغاث من سبقك بأوليائهم" إلا أن يخرج على أن "من" مبتدأ مؤخر كما في قوله تعالى: {ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ} وقوله: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} أو "من" بدل من واو الجماعة.
٤ لمحه وألمحه والتمحه: إذا أبصره بنظر خفيف.

<<  <  ج: ص:  >  >>