للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقليل، وإن جَمَّ ماله، وإن كان وقته قد فات اكتسابكم، وتَخَطَّى حسابكم فالتمسوه لبنيكم، واستدركوا منه ما خرج عن أيديكم، واحملوهم على جمْعه ودرْسه، واجعلوا طباعهم ثَرَى لِغَرْسِه، واستسهلوا ما ينالهم من تعب من جَرَاه١ وسَهَرٍ يهجر له الجفن كَرَاه، تعقدوا لهم ولاية عز لا تُعْزَل، وتُحِلُّوهم مثابة رفعة لا يُحط فارعها ولا يُسْتَنْزَل، واختاروا العلوم التي يتعقَّبها الوقت، فلا يناها في غيره٢ المقت، وخير العلوم علوم الشريعة، وما نجم بمنابتها المريعة٣، من علوم لسان لا تستغرق الأعمار فصولها، ولا يضايق ثمرات المعاد حصولها، فإنها هي آلات لغير، وأسباب إلى خير منها وخير، فمن كان قابلًا للازدياد، وألفى فهمه ذا انقياد، فليخصّ تجويد القرآن بتقديمه، ثم حفظ الحديث ومعرفة صحيحه من سقيمه، ثم الشروع في أصول الفقه فهو العلم العظيم المِنَّة، المهدي كنوز الكتاب والسنة، ثم المسائل المنقولة عن العلماء الجِلَّة، والتدرج في طرق النظر بصحيح الأدلة، وهذه هي الغاية القصوى في الملة، ومن قصر إدراكه عن هذا المرمى، وتقاعد عن التي هي أسمى، فليروِ الحديث بعد تجويد الكتاب وإحكامه، وليقرأ المسائل الفقهية على مذهب إمامه، وإياكم والعلوم القديمة، والفنون المهجورة الذميمة، فأكثَرُوا لا يفيد إلا تشكيكا، ورأيا ركيكا، ولا يثمر في العاجلة إلا اقتحام العيون، وتطريق الظنون، وتطويق الاحتقار وسمة الصَّغار، وخمول الأقدار، والخَسْف من بعد الإبدار، وجادة الشريعة أعرق في الاعتدال، وأوفق من قطع العمر في الجِدال، وهذا ابن رشد٤ قاضي المصر ومُفْتِيه


١ يقال: فعلت ذلك من جراه ومن جرائه بالتشديد ويخففان، ومن جريرته: أي من أجله، والكرى: النوم.
٢ غير الدهر: أحداثه المغيرة، والضمير فيه يعود على الوقت.
٣ المخصبة.
٤ هو أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد، أعظم فلاسفة الأندلس وأطبائها، ولد سنة ٥٢٠هـ ودرس علوم الدين والفلسفة والطب، واتصل بيوسف بن عبد المؤمن زعيم الموحدين، وشرح له فلسفة أرسطو، وقد ولاه قضاء إشبيلية؛ ثم استدعاه إلى المراكش، وجعله طبيبه الخاص، ثم جعله قاضي القضاة بقرطبة، ولما ولي بعده ابنه المنصور بالله علت مكانة ابن رشد عنده، فأثار ذلك حسد خصومه، فكادوا له عند السلطان واتهموه أنه يجحد القرآن، وينشط الفلسفة وعلوم الأوائل بدلا من علوم الدين، وينصر مذهب القدماء في القول بألوهية بعض الكواكب، فنزله المنصور فيه من قضاء قرطبة، ثم عفا عنه، واستدعاه إلى مراكش، ولم يطل مقامه بها، فمات سنة ٥٩٥هـ، وقد ترجم أكثر كتبه إلى اللغات الأجنبية، وعليها عول الأوربيون في نهضتهم الحديثة.

<<  <  ج: ص:  >  >>