للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وآكد ما أوصيك به أن تَطْرَح الأفكار، وتُسَلِّم للأقدار.

واقبل من الدهر ما أتاك به ... من قرَّ عينا بعيشه نفعه

إذ الأفكار تجلب الهموم، وتضاعف الغموم، وملازمة القُطوب، عُنوان المصائب والخُطوب، ويستريب به الصاحب، ويشمت العدو المُجَانِب، ولا تضرّ بالوساوس إلا نفسك، لأنك تنصر بها الدهر عليك، ولله دَرُّ القائل:

إذا ما كنت للأحزان عونا ... عليك مع الزمان فَمَنْ تلوم

مع أنه لا يرد عليك الفائِتَ الحَزَن، ولا يرعوى بطول عتبك الزمن، ولقد شاهدت بغرناطة شخصا قد أَلِفَتْه الهموم، وعشقته الغموم، من صغره إلى كبره، ولا تراه أبدا خليًّا من فكره، حتى لُقِّب بصدر الهم، ومن أعجب ما رأيته منه أنه يتنكَّد في الشدة، ولا يتعلل بأن يكون بعدها فرج، ويتنكَّد في الرخاء خوفا من أن لا يدوم.

وينشد: توقَّع زوالا إذا قيل تَمَّ، وينشد: وعند التناهي يَقْصُر المتطاول.

وله من الحكايات في هذا الشأن عجائب، ومثل هذا عمره مخسور يمرّ ضياعا.

ومتى رفعك الزمان إلى قوم يذُمُّون من العلم ما تُحْسِنُه حسدا لك، وقصدًا لتصغير قدرك عندك، وتزهيدا لك فيه، فلا يَحْمِلك ذلك على أن تزهد في علمك، وتركن إلى العلم الذي مدحوه، فتكون مثل الغراب الذي أعجبه مشي الحَجَلَة١ فرام أن يتعلمه فصَعُب عليه، ثم أراد أن يرجع إلى مشية فَنَسِيَه، فبقى مُخَبَّل المشي، كما قيل:

إن الغراب "وكان يمشي مِشْيَةً ... فيما مضى من سالف الأجيال"٢

حسد القَطَا، وأراد يمشي مشيها ... فأصابه ضرب من العُقَّال٣


١ الحجل بالتحريك: طائر على قدر الحمام كالقطا أحمر المنقار والرجلين، والواحدة حجلة واسم جمعه حجل بكسر فسكون ففتح ولا نظير له سوى ظربى "ومفرده ظربان بفتح فكسر وهو دويبة منتنة الريح".
٢ هذا البيت ليس مثبتا في الأصل، وقد أورده الدميري مع البهتين بعده في حياة الحيوان الكبرى ٢: ٢٤٤.
٣ العقال: داء في رجل الدابة إذا مشى ظلع ساعة ثم انبسط.

<<  <  ج: ص:  >  >>