ومن محاسنه ما وقع في سورة (الفاتحة)، فإن العبد إذا ذكر الله تعالى وحده، ثم ذكر الله صفاته التي كل صفة منها تبعث على شدة الإقبال؛ وآخرها:{مالك يوم الدين}[الفاتحة: ٤] المفيد أنه مالك الأمر كله في يوم الجزاء، يجد من نفسه حالًا لا يقدر على دفعه على خطاب من هذه صفاته وتخصيصه بغاية الخضوع والاستعانة في المهمات. وقيل: إنما اختير لفظ الغيبة للحمد، وللعبادة الخطاب، للإشارة إلى أن الحمد دون العبادة في الرتبة؛ لأنك تحمد نظيرك ولا تعبده؛ فاستعمل لفظ الحمد مع الغيبة ولفظ العبادة مع الخطاب؛ لينسب إلى العظيم حال المخاطبة والمواجهة ما هو على رتبته؛ وذلك على طريق التأدب. وعلى نحو من ذلك جاء آخر السورة؛ فقال تعالى:{الذين أنعمت عليهم} مصرحًا بذكر المنعم وإسناد الإنعام إليه لفظًا، ولم يقل: صراط المنعم عليهم. فلما صار إلى ذكر الغضب زوى عنه لفظه، فلم ينسبه إليه لفظًا، وجاء باللفظ منحرفًا عن ذكر الغاضب، فلم يقل غير الذين/ غضبت عليهم؛ تفاديًا عن نسبة الغضب إليه في اللفظ حال المواجهة.
وقيل: لأنه لما ذكر الحقيق بالحمد، وأجرى عليه الصفات العظيمة من كونه ربًا للعالمين، ورحمانًا رحيمًا، ومالكًا ليوم الدين، تعلق العلم بمعلوم عظيم الشأن، حقيق بأن يكون معبودًا دون غيره، مستعانًا به، فخوطب بذلك لتمييزه بالصفات المذكورة تعظيمًا لشأنه؛ حتى كأنه قيل:«إياك يا من هذه صفاته نحصر بالعبادة والاستعانة لا غيرك».