[معرفة الله وأسمائه وصفاته بالشرع لا بالعقل]
قال المصنف رحمه الله: سياق ما يدل من كتاب الله جل وعلا وما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجوب معرفة الله تعالى وصفاته بالسمع لا بالعقل، وهذه قاعدة مهمة، وما ينشر من أن الله يعرف بالعقل فليس بصحيح، فالله نعرفه بالوحي لا بالعقل، ودلالة ذلك من الكتاب ومن السنة، قال الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:١٩] أمره بالعلم بالشرع، وقال الله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:١]، وقال جل وعلا: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ} [يونس:١٠٩] أي: وليس العقل، إنما الذي يوحى إليك، وقال الله جل وعلا آمراً نبيه أن يقول لنا: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} [سبأ:٥٠] أي: من العلم، كذلك الرسل لا يعرفون بالعقل؛ لأن الرسالة ليست اكتساباً ولكن هبة من الله جل وعلا، فلا يعرف الرسول إلا بالتوقيف كما قال الله تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} [النساء:١٦٥] {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:١٥٨] أي: أن الله جل وعلا هو الذي أرسلني، {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:٣ - ٤] {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:١٥].
وفي الصحيح: (عن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه قال: جاء رجل من بني بكر فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: أين ابن عبد المطلب؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنا، فقال: إني سائلك ومشدد عليك، من خلق الأرض؟ قال: الله، قال: من خلق السماء؟ قال: الله، قال: من نصب الجبال وجعل فيها ما فيها؟ قال: الله، فقال له الرجل: إني سائلك ومناشدك ومشدد عليك فلا تجدن علي في نفسك شيئاً، قال: نعم، فقال له: فبالذي خلق الأرض وخلق السماء ونصب هذه الجبال وجعل ما فيها آلله أرسلك؟ قال: نعم، فأسلم الرجل)، فما علم ذلك إلا بالوحي، فالمسألة تدور على الشرع لا على العقل، وهذا أصل من أصول أهل السنة والجماعة لا بد أن نعض عليه بالنواجذ، وهذا أصل من أصول أهل السنة والجماعة، فإن معرفة الله ومعرفة الرسل لا تكون إلا بالوحي، وليس معنى ذلك أن نهمل العقل، بل له مكانته وله احترامه ولكن له حدود ولا يعرف الله استقلالاً، فالعقل يعلم صدق الرسول لكن ليس استقلالاً بل لا بد معه من الوحي، وقد كرم الله بني آدم على العجماوات بالعقل فقال: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [الإسراء:٧٠] وقال الله تعالى يبين مكانة العقل {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:٨٢]، وقال جل وعلا: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:٢٤].
وأمرهم أن يتدبروا بالعقل في الملكوت العلوي والسفلي فقال: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [ق:٦ - ٨]، وقال: {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} [الحجر:١٩]، فالعقل محترم يتدبر في آلاء الله جل وعلا وآياته، ولا بد أن يكون موافقاً لشرع الله جل وعلا.
وقد بين الله جل وعلا قيمة العقل والتدبر وذلك بالحجج العقلية التي رماها للمشركين حتى يتدبروا فيها، قال الله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} [الطور:٣٥] أي: انظروا وتدبروا هل خلقتم من غير شيء؟ وهل العدم يخلق شيئاً؟ {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:٣٥] فلا يمكن أن يقول عاقل: إنه خلق نفسه أو خلق غيره، ثم ارتقى إلى أعلى من ذلك فقال: {أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [الطور:٣٦]، وقال الله تعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:٢١].
ومن الأدلة على احترام العقل والحجج العقلية: دليل التمانع، قال الله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:٢٢] أي: لو تدبروا فإما أن يكون للكون إله واحد أو آلهة كثر، ولو كان آلهة كثر فكل إله سوف يخاصم الإله الآخر ويأخذ خلقه ويذهب، أو يصارع، {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} [الإسراء:٤٢]، فصاحب الشمس أو القمر سوف يتخاصم مع صاحب السماء حتى يتملك الكل، كما يتنازع ملوك الأرض، فإن غلب أحدهما على الآخر فالمغلوب لا يكون رباً، لأن الرب لا يكون ضعيفاً، فإن لم يظهر أحد يبتغي إلى ذي العرش سبيلاً فلابد أن يكون واحد هو المدبر وهو الخالق لهذا الكون، وهذا دليل عقلي، وهو دليل على احترام العقل؛ لكن العقل لا يمكن أن يقدم على النقل ولا على الشرع، فمرتبته الثانية بعد الشرع، وإذا قلنا: إن الله يعرف بالعقل، أو إن العقل يقدم على النقل، فسيلزم من ذلك لوازم باطلة، وأول شيء منها إهمال مهمة الرسل، والله جل وعلا ما أرسل الرسل إلا ليدللوا عليه، فإذا قلنا: عرفنا الله بالعقل فلا نحتاج إلى رسول، وهذا مخالف لظاهر القرآن، قال الله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:١٥]، وقال: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} [النساء:١٦٥] فأرسلهم الله ليدلوا الناس عليه، وكما أن القول بأن الله يعرف بالعقل يفضي إلى إلغاء مهمة الرسل، فإنه يفضي إلى القول بأنه لا معنى لقوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:١٥].
ومن لوازم تقديم العقل على الشرع وأن الله يعرف بالعقل: تقديم العقل على الشرع في أحكام الفروع الفقهية وتكذيب بعض الأحاديث كحديث المسح على أعلى الخفين، فإن الأسفل هو الأولى بالمسح.
وقد رد البعض حديث الذبابة الذي فيه أن في أحد الجناحين داء وفي الآخر دواء، وكل ذلك من لوازم تقديم العقل على النقل، حيث قالوا: قد عرفنا الله بالعقل، وبقية الأحكام كذلك نعرفها من باب أولى بالعقل.
واللازم الثالث من تقديم العقل على الشرع: التجاوز فيما يجوز لله وما لا يجوز كقولهم: إن الله لا يصح أن يكون له يد لأن اليد جارحة، وإذا قلنا: إن الله له جارحة فقد ضاهيناه بالمخلوق وشبهنا الخالق بالمخلوق، وكقولهم كذلك: لا يصلح أن يكون لله عين لأنها جارحة، وإذا قلنا بذلك فقد شبهنا الخالق بالمخلوق، وقالوا بأن هذه تجاوزات عقلية وإبطال لهذا العقل، وليس ذلك صحيحاً بل إن العقل له رتبته بعد الشرع.
فهذا الباب من أهم الأبواب في هذا الكتاب، وهو باب سياق ما يدل على وجوب معرفة الله وصفاته وأسمائه بالشرع لا بالعقل، والعقل يوافق الشرع، كما قال شيخ الإسلام: العقل الصحيح لا يخالف نصاً صريحاً صحيحاً مفهوماً.