[الرد على شبهات المبتدعة التي أوردوها في نفي علو الله المطلق]
قوله تعالى:{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}[ق:١٦] القرب هنا لا ينافي العلو، فقد أثبت الله جل وعلا أنه فوق عرشه، بائن من خلقه، يعلم ما هم عليه، وهذا ثابت بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة، فالقرب هنا له معنى آخر غير المعنى المفهوم عند الجهمية أو الصوفية، ألا وهو قرب العلم، وانظر إلى أول الآية وانظر إلى وسط الآية، قال تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ}[ق:١٦]، فذكر العلم ليبين أنه محيط بهذا الإنسان، قال تعالى:{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}[ق:١٦]، ثم فسر القرب هنا: بالملائكة، قرب بالعلم والإحاطة والإحصاء وقرب بالملائكة، قال الله تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}[ق:١٦]، ثم فسر الآية بعدها فقال تعالى:{إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ}[ق:١٧]، فالذي يتلقى هم الملائكة، وهم الذين ذكرهم الله جل وعلا وعناهم بقوله:{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}[ق:١٦]، نظير ذلك قول الله في سورة الواقعة:{فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ}[الواقعة:٨٣ - ٨٥]، فالقرب هنا ليس قرب ذات الله جل وعلا بل قرب إحاطته وإحصائه وملائكته، والقرينة التي أثبتت ذلك هي قول الله تعالى:{فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لاَ تُبْصِرُوْنَ}[الواقعة:٨٣ - ٨٥]، والشاهد قوله:{وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ}[الواقعة:٨٥]، فلا يستطيع أحد أن يرى الله في الدنيا.
والمراد بقوله تعالى:{وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ}[الواقعة:٨٥] أي: الملائكة التي جاءت لقبض الروح، فالملائكة في هذه اللحظة هم الذين يقبضون الروح، ملك الموت ومن يعاونه من الملائكة.
فإن قلنا: القرب هنا: قرب الملائكة، وقرب علمه وإحاطته جل وعلا، فالإشكال: أن الله نسب ذلك لنفسه، قال تعالى:{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}[ق:١٦]، وفي الآية الأخرى قال تعالى:{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ}[الواقعة:٨٥]، فنقول: لا إشكال في ذلك، لأنك إذا قلت: بنى عمرو بن العاص الفسطاط، صح ذلك، ولكن إذا نظرنا إلى الواقع نجد أنه أمر الناس بالفعل، ونسب له، لأنه الآمر، فعندما تقول: بنى عمرو بن العاص مسجداً فليس هو الباني، ولكنه هو الآمر، فنسب له، لأنه الآمر.
وفي القرآن ما يدل على ذلك، قال الله تعالى:{لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ}[القيامة:١٦ - ١٨]، والذي يقرؤه بالاتفاق هو جبريل، ونسب إلى الله حل وعلا؛ لأن جبريل ما قرأ على النبي صلى الله عليه وسلم إلا بأمر من الله جل وعلا، فلا إشكال في أن ينسب الفعل إلى الله، قال تعالى:{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}[ق:١٦] أي: أمرنا الملائكة أن تكون معه، تحصي حسناته وحركاته وضحكاته، وتكتب كلامه كما قال تعالى:{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}[ق:١٨]، وكذلك في قوله تعالى:{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ}[الواقعة:٨٥]، فملك الموت هو الذي يسحب هذه الروح بأمر من الله جل وعلا.
تبقى شبهة واحدة أوردوها في الحديث القدسي، قال الله تعالى:(من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) أي: من كان ولياً لله جل وعلا فنصرته من عند الله، ومن استطاع أن يحارب الله أو أطاق حرب الله فليحارب الله جل وعلا، فليرينا كيف ينتصر على ربه جل وعلا، فجندي الريح أو الذباب أو الناموس لو يسلطه الله على عباده أجمعين سيبيتون هلكى ولكن لا يفقهون، والمقصود من الحديث:(من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه، وما زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به) قالوا: هنا مخالطة، إذاً: الله جل وعلا في كل مكان، وهذا مدعاة للحلول الذي يحتجون به، ويقولون: الله في كل مكان، حاشا لله! والرد عليهم هين وسهل، فتفسير الحديث يكون بالحديث؛ لأن الرسول مبين كما قال تعالى:{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}[النحل:٤٤]، فانظر في هذا الحديث، وفي رواية أخرى أن الله تعالى قال:(كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به) ثم قال: (فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش) أي: بقدرتي وبإحاطتي ونصرتي وتأييدي، وهذه معية خاصة، وهذه المعية الخاصة هي معية النصرة والتأييد، أي: فبنصرتي ينتصر، فبقوتي يبطش، فبرضاي عليه لا يسمع إلا ما يرضي، فبحفظي لا ينظر إلا لما يرضي، فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش، فهذا هو الرد عليهم؛ لأن الحديث يفسره ما بعده، ومعنى قوله تعالى:(كنت سمعه) أي بقوتي وقدرتي ونصرتي وتأييدي يسمع ويبصر ويبطش.
فهذه الطائفة نفت العلو المطلق، والطائفة الأخرى نفت العلو المقيد.