السلف بينهم شبه اتفاق على أن ميزان يوم القيامة حقيقي، إلا ما أتى عن مجاهد والأعمش من أهل السنة والجماعة فقد قالا: المقصود بالميزان العدل، واستدلوا بما استدل به المعتزلة، وهم أهل تأويل لا يقبلون شيئاً على حقيقته في الغيبيات بل يأولونه بما يوافق العقول؛ لأنهم يقدمون العقل على النقل، فلما سمعوا أن الميزان له كفتان قالوا: ليس هناك ثمة ميزان، ووزن الأعمال إنما هو شيء معنوي، معناه العدل، وكل إنسان سيحاسب بعدِّ حسناته إن كثرت يدخل الجنة، وسيئاته إن كثرت إن شاء الله أن يعذبه فيعذبه، وأيضًا بالعدل في الخصومات، هذا معنى الميزان عند المعتزلة، واستدلوا على ذلك بقول الله تعالى:{وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ}[الرحمن:٧ - ٩]، وهذا معناه: أنك في التعامل بينك وبين الناس تعدل في كل شيء تعدل في الإحسان تعدل في القدح أو الجرح والتعديل تعدل في العطاء والمنع تعدل في البيع والشراء.
ونحن نوافقهم على ذلك إن قصد بهذا الميزان العدل في التعامل البشري في الدنيا، لكن الله ذكر الميزان، والميزان لفظ صريح، فلا بد علينا لزاماً أن نثبت ما أثبته الله، فهو ميزان حقيقي الله أعلم بكيفيته، فنثبت أولاً حقيقة ما أثبته الله وهو الميزان، ثم نثبت تبعاً لهذا لازم الميزان وهو العدل، فيكون في ذلك رد على المعتزلة.
ونحن نثبته حقيقية ونقول: الله أعلم بكيفيته، ونثبت أن له كفة يمنى وكفة يسرى توزن فيهما الأعمال، وبذلك يظهر العدل.
إذًا: من أهل السنة والجماعة من قال بقول المعتزلة، ويغفر الله لهم ذلك؛ لأنه اجتهاد أخطئوا فيه، فلهم -بإذن الله- أجر، ونحن مع ما دل عليه الكتاب من أن الميزان له حقيقة يوم القيامة، وله كفتان كفة يمنى وكفة يسرى.