[الرد على من قالوا بعدم الرؤية في الآخرة]
الرد الأول: أن (لن) ليست للتأبيد فالسياق في الآية يدلنا على المعنى المراد منها، قال الله تعالى: {َلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف:١٤٣] فعلق الأمر على محتمل لا على مستحيل، وهذا يدل على أن (لن) ليست نافية، وإذا قلنا بأن (لن) للتأبيد فقول الله جل وعلا لموسى (إنك لن تراني) يكون في الدنيا فقط دون الآخرة، فلا ذكر للآخرة في الآية، فلا يصح أن نقول إنهم لا يرون الله جل وعلا في الآخرة.
وإذا رجعنا إلى اللغة فسنجد أن (لن) في أصل اللغة ليست للتأبيد، وهذا الذي قرره ابن مالك فقال: إن (لن) لا تفيد التأييد إلا بقرائن.
والدليل على ذلك قول الله تعالى عن أهل الكفر: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة:٩٥]، ثم بين لنا أنهم في الآخرة سيتمنون الموت، قال الله تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:٧٧]، فقال: {لَنْ يَتَمَنَّوْهُ} [البقرة:٩٥] وتمنوه في الآخرة، فهذه دلالة قاطعة على أن (لن) لا تكون للتأبيد بحال من الأحوال، وإنما هي لمطلق النفي فقط.
أما قولهم: كيف تقولون: إنكم سترون الله والله جل وعلا يقول: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام:١٠٣] فالجواب عليه من وجهين: الوجه الأول: أن الإدراك غير الرؤية، فلم يقل الله جل وعلا لا تراه الأبصار وإنما قال:: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:١٠٣] والإدراك معناه الإحاطة، ودلالة ذلك أنه لما فر موسى بقومه من فرعون {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:٦١ - ٦٢] ففرعون يرى موسى ومن معه وهم يرون فرعون ومن معه، ومع ذلك فموسى عليه السلام نفى الإدراك ولم ينف الرؤية، فهم يرونهم ولكن ما أحاطوا بهم، وما أدركوهم.
كذلك في قول الله تعالى: ((لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ)) أي: لا تحيط به جل وعلا، لكنها تراه، والكيفية لا يعلمها إلا الله جل وعلا، والرؤية أعم من الإدراك.
أما دليلهم العقلي وهو قولهم: إنكم لو أثبتم رؤية الله فقد جسمتم الله، وأصبح الخالق كالمخلوق، وشبهتم الخالق بالمخلوق، فالرد عليهم بأن الذي أودى بكم إلى هذا هو التشبيه، فقد شبهتم الخالق بالمخلوق، ونحن نقول: نثبت كل صفات الله جل وعلا بدون تمثيل ولا تشبيه ولا تكييف، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:١١] ولا يستلزم من رؤية الله جل وعلا أن يكون جسماً، ولو كان لازم هذه الآية التي تدل على الرؤية أن يكون جسماً فليكن جسماً؛ لأن لازم الحق حق، ولكننا نتوقف في مثل هذا الكلام فلا ننفيه ولا نثبته.
وأما قولهم في قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:٢٢ - ٢٣]، أن النظرة تكون إلى ثواب ربهم فقد قدروا بكلامهم هذا أمراً محجوباً، والرد عليهم من ثلاثة وجوه: الأول: أن هذا خلاف فهم النبي صلى الله عليه وسلم وخلاف ما بلغ به أمته؛ لأنكم لو قلتم: معنى هذه الآية: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة:٢٢] (إلى ثواب ربها ناظرة) فقد اتهمتم النبي أنه قصر في البلاغ، فهو يعلم أن الآية معناها: (إلى ثواب ربها ناظرة)، ولكنه قصر في التبليغ، وهذا اتهام صريح للنبي صلى الله عليه وسلم؛ والله جل وعلا أمره بالتبليغ في قوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} [المائدة:٦٧]، وقال: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:٤٤].
الثاني: خلاف فهم وإجماع السلف الصالح.
الثالث: يلزم من رؤية الله جل وعلا رؤية ثواب الله؛ لأن رؤية الله هو أعلى نعيم ممكن يصل إليه المرء، فمن رأى الأعلى يلزم منه أن يرى الأدنى، والتقسيم دائماً في الدنيا أن النعيم نعيمان، نعيم مادي حسي، وهو نعيم البدن، كالأكل والشرب والنكاح والجماع، ونعيم روحي وهو نعيم القلب، فيستلزم من حصول النعيم الأعلى الروحي وهو النظر إلى الله جل وعلى حصول النعيم الأدنى وهو نعيم البدن، والله جل وعلا أعطى المؤمنين ما يشتهون، وألذ ما يتمنون وأعظم ما يتنعمون به وهو رؤية الله جل وعلا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.