للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[دلالة الفطرة على العلو]

الدلالة الخامسة والأخيرة على علو الله جل وعلا: دلالة الفطرة، فما من أحد إلا وهو مجبول مفطور على علو الله جل وعلا، ولا ترى أحداً ضاق به المقام، أو نزلت به نازلة إلا وقلبه يهفو إلى أعلى، ونظره إلى السماء، وكأن القلب يحوم حول العرش، ودائماً ترى الراقي الذي يتعبد لله جل وعلا يسمو بروحه إلى السماء.

فدلالة الفطرة تثبت علو الله جل وعلا في أكثر من نوع: فعندما تمر بالمرء ضائقة أو نازلة وأراد أن يدعو تراه يرفع يديه إلى أعلى، وهذه دلالة على أنه يدعو من في العلو، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر عندما قال: (اللهم وعدك الذي وعدت، اللهم أنجز لي وعدك الذي وعدت، اللهم نصرك، وكان يرفع يديه حتى سقط رداؤه من على كتفيه) ولما دخل عليه الرجل، وقال: جاعت العيال وهلك الزرع ادع الله لنا أن يسقينا، رفع يديه إلى السماء، ولم ينزل حتى تحدر المطر من على لحيته.

فالشاهد: أنه رفع يديه لله جل وعلا، فهذه فطرة الإنسان تراه يرفع يديه عند الدعاء وقلبه معلق بمن في السماء.

وإذا أراد شيئاً ينظر إلى السماء مضطراً إلى ذلك، فسيد الخلق كان يحب أن يحول الله القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، فكان يديم النظر إلى السماء، قال الله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة:١٤٤] فهو كان ينظر إلى أعلى؛ لأنه يعلم أن الله في العلو، فهذه دلالة الفطرة.

وقد ورد بسند مختلف فيه، والراجح -والله أعلم- التصحيح: (أن سليمان ذهب ليستسقي، فلما ذهب ليستسقي ومعه حاشيته رأى نملة رافعة قوائمها، كأنها ترفع يديها تقول: اللهم إنا خلق من خلقك، اللهم اسقنا، فقال: ارجعوا فقد كفيتم بغيركم) فهذه النملة خلق من خلق الله جل وعلا تعلم بفطرتها أن الله في السماء.

وهناك قصة طريفة جداً لـ أبي المعالي الجويني لما كان يجلس في مجلس العلم، فجلس معه الهمداني فقال: كان الله وما كان العرش -أي: أن العرش ما كان مخلوقاً، بل كان الله وحده- والآن الله على ما كان قبل وجود العرش، ويؤول العرش بالملك، ويقول: ليس بمستوٍ على عرشه، فهو ينفي العلو، فقال له الهمداني: يا أستاذ! أريد منك إجابة، ما الذي يحدث معنا ضرورة في القلب إذا قال العارف بالله: يا ألله! يتجه قلبه ضرورة إلى السماء؟! فضرب أبو المعالي على رأسه وقال: حيرني الهمداني، حيرني الهمداني؛ لأنه يجد ذلك في قلبه ولا يستطيع أن يدفعه.

فبالفطرة تعلم أن الله عال في السماء بائن من خلقه جل وعلا.

هذا هو العلو المطلق، وهو علو الذات وعلو الشأن وعلو القهر، فعلو الشأن وعلو القهر اتفقت عليه جميع الطوائف، أما علو الذات فاختلفت فيه الطوائف كما سنبين.

والعلو المقيد هو علو الله على العرش، كما قال الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥]، والعلو المطلق صفة ذات، والعلو المقيد صفة فعل، أي: تتعلق بمشيئة الله جل وعلا؛ إن شاء استوى، وإن شاء لم يستو.

س