للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[إبطال الجبرية للشرع بالاحتجاج بالقدر]

والجبرية هم الذين أبطلوا الشرع بالاحتجاج بالقدر، فأبطلوا الأمر والنهي والحكمة والتعليم بالقدر، فلا يوجد عندهم شيء اسمه أمر، ولا يوجد شيء اسمه نهي، فاحتجوا بقدرالله وقالو: إن الله جل وعلا سير العبد بأفعاله، وقد وصف الله لنا حالهم، فقال عز من قائل: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [النحل:٣٥].

فرد الله عليهم برد قاطع في قوله: {كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النحل:٣٥]، أي الكفار أمثالهم {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النحل:٣٥].

وهنا محل الرد {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} أي: أرسلنا الرسل بإقامة الحجة عليهم، ولقطع حجتهم ودحر شبهتهم؛ لأن الرسل جاءوا ليبينوا للمرء طريق الخير وطريق الشر، بل ويبين كل رسول لأمته بأن كل فرد منها مكلف وله اختيار وله إرادة، ألم تر أن الله جل وعلا قال: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً} [الأحقاف:٢٦]؟ آلات للتحرك والاختيار وللإرادة، ليفعلوا الفعل بإرادتهم واختيارهم، فالعبد لا يلومن إلا نفسه كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه).

وقال الله عز وجل عنهم: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} [الأعراف:٢٨].

وفي قولهم هذا فحش وتجبر وتجاسر وتجرؤ على الله لأنهم زعموا أن الله أمرهم بهذا الفعل، وأجبرهم عليه، فقالوا: نحن نسير على وفق ما أمرنا به.

فرد الله عليهم: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} [الأعراف:٢٩]، {أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:٢٨].

أي: الله جل وعلا لم يأمركم بأن تفعلوا الفاحشة، بل أمركم أن تفعلوا الخير وتتركوا الفاحشة.

ثم قالوا: لم يشأ الله أن يهدينا، فقال الله تعالى: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام:١٤٩].

أي: الله جل وعلا له الحجة البالغة، لأنه أخذ عليهم الميثاق وقال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:١٧٢]، وشهدوا بذلك ثم أرسل الرسل ليذكرهم بهذا المقال، وقطع بذلك حجتهم، قال الله تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:١٦٥]، أي: بعد تبليغ هذه الرسالة.

وقوله تعالى: {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام:١٤٩].

أي: له الحجة البالغة عليهم بأن قطع حجتهم، وجعلهم مكلفين، وجعلهم مختارين، وجعل لهم إرادة، وجعل لهم السمع والبصر والأفئدة التي تثبت الإرادة.

واحتجوا أيضاً بحديث احتجاج آدم وموسى وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (التقى موسى عليه السلام بآدم في دار الآخرة، فقال: موسى لآدم أنت آدم خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه، أخرجتنا ونفسك من الجنة -وفي رواية أخرى: خيبتنا، يعني: بإخراجك إيانا من الجنة- فقال آدم: أنت موسى اصطفاك الله برسالاته وبكلامه، وخط لك التوراة بيده، تلومني على أمر قد كتبه الله علي قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف سنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم -مبيناً الترجيح بين الاحتجاجين-: فحاج آدم موسى -وفي رواية أخرى- قال: ألم تقرأ في التوراة: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:١٢١]؟ قال: نعم، قال: وخط الله التوراة قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف سنة، فأقر موسى بذلك) هذا الحديث التي تعلق به الجبرية، وقالوا: هذا أبو البشر أرفع الناس منزلة في وقته وهو أول نبي من الأنبياء يحتج على المعصية بالقدر، يقول لموسى الله جل وعلا قدر علي أنني سأعصي قبل أن يخلقني بخمسين ألف سنة، فاحتج على ذلك بقدر الله جل وعلا.

وكانت إجابة آدم احتجاجاً بالقدر، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (حاج آدم موسى) يعني: الحجة كانت مع آدم على موسى لما احتج بالقدر، وهذا ضلال مبين، وفهم سقيم من الجبرية، حيث فهموا أن آدم احتج بالقدر بأن الله قدر عليه ذلك ولا بد أن يقع فيه، فنقول: حاشا لله أن يكون هذا النبي الكريم -الذي خلقه الله بيده وأكرمه بسجود الملائكة له- يحتج بالقدر، وقد امتلأ القرآن بالآيات الدالة على أن الله جل وعلا تاب على آدم بعد أن تاب من الذنب، وهو لم يحتج بالقدر على الله، بل أقر بالذنب واستغفر، وقال: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:٢٣].

فأقر هو وحواء بالذنب أمام الله جل وعلا، وقالا: ((رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا))، فلم يحتجا بالقدر على هذه المعصية.