للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[اختلاف الناس في كرامات الأولياء]

الكرامة اختلف فيها على ثلاثة مذاهب، المذهب الأول: مذهب فيه غلو، والمذهب الثاني: مذهب فيه جفو، والمذهب الثالث: مذهب وسط وهو مذهب أهل السنة والجماعة.

أما المذهب الأول: مذهب الأشاعرة، يرون أن الكرامة والمعجزة أمر واحد لا خلاف بينهما، الفارق الوحيد: هو أن الكرامة لا يتحدى بها الولي، والمعجزة يتحدى بها النبي، إذاً: الأشاعرة يثبتون الكرامة، ويقولون: هي كالمعجزة، وما يحدث للنبي يحدث للولي.

معنى ذلك: أنه يمكن للولي أن يأخذ عصاً ويضرب بها البحر فينفلق؛ لأنه يساوي ما يحدث للنبي، أو يأخذ خشبة كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم فيهزها، فتنقلب سيفاً أمامهم، أو يلقي الخشبة أو العصا فتكون حية، هذا على كلام الأشاعرة، أن ما يحدث للنبي قد يحدث للولي، لكن الولي لا يتحدى والنبي يتحدى، وهذا غلو كما سنبين.

المذهب الثاني: على النقيض مذهب فيه جفو، وهو مذهب المعتزلة، الذين يمررون كل شيء على العقل، هؤلاء لا يثبتون الكرامة، ويخالفون بذلك الكتاب والسنة والواقع المشاهد، قال: لا كرامة لولي بحال من الأحوال، واستدلوا على ذلك بشبهٍ عقلية، قالوا: لو قلنا بالكرامة ساوينا بين الولي والنبي، ولازم ذلك تلبيس الأمر على العامة، يلبس عليهم الأمر فيقولون: كل الأولياء هم أنبياء، ولا يفرقون بين نبي ولا ولي، ويكون الذي تميز به النبي قد تميز به الولي، فلا فرق بين نبي ولا ولي، هذه هي الشبهة العقلية.

المذهب الثالث: المذهب الوسط في الكرامة، مذهب أهل السنة والجماعة، قالوا: الكرامة ثابتة بالكتاب والسنة، أما بالكتاب، فإن الله أثبتها لبعض عباده، قال الله تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران:٣٧] فأثبتها الله جل وعلا في أمة من إمائه، وأيضاً ثبتت في السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن الكرامة تأتي لعبد صالح قد أدى الفرائض وانتهى عن المحرمات وتمسك بالسنة، كما جاء عن أنس الصادق الذي صدق الله ما وعد، (جاء أنس عندما كسرت أخته الربيع سن جارية، فطلب القصاص، فقال أنس: سنُّ الربيع يا رسول الله! والله لا تكسر -هو لا يقسم على النبي صلى الله عليه وسلم رداً حاشا لله، لكنه صادق مع ربه- فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: يا أنس! كتاب الله القصاص -يعني: لا بد أن تكسر- فرضي ولي الجارية بالعفو مقابل الدية، ونظر النبي صلى الله عليه وسلم متعجباً لـ أنس، ثم قال: إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره)، وقال صلى الله عليه وسلم: (رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره).

ومن الكرامات: أن يرفع يده، وما ينزل يده إلا ويستجاب له في الحال، كما حدث مع البراء بن مالك رضي الله عنه وأرضاه.

والغرض المقصود أنها ثابتة: بالكتاب وبالسنة وبالواقع المشاهد، فكثير من الصحابة شاهدوا كرامة عمران بن الحصين، كانت الملائكة تسلم عليه وهو يمشي في الشوارع.

أيضاً أسيد بن حضير كان يمشي ومعه العصا في الظلمة فتنير له الطريق.

كذلك الأسد كلم سفينة وأخذ به إلى جيش المسلمين؛ كرامة لـ سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له: يا أبا الحارث، اعلم أني مولى رسول الله، فحرك ذنبه له، ثم قال: دلني على الجيش، فأخذه حتى أوصل، ثم حرك ذيله كأنه يسلم عليه؛ كرامة لهذا الصحابي، فهي ثابتة بالكتاب وبالسنة وبالواقع المشاهد.

فمذهب أهل السنة والجماعة أنها ثابتة، لكنها أقل من المعجزة، فهي تتفق مع المعجزة وتفترق، تتفق بأنها أمر خارق للعادة، وتفترق بأنها أقل درجة من المعجزة، يعني: لا يمد الخشبة فتكون سيفاً، ولا تقلب له حية، ولا ينفلق له بحر، ولا يضرب الحجر فيتفجر ماءً، لا يحدث له ذلك، لكن يمكن أن يطير في الهواء، ويمكن أن يمشي على الماء، ويمكن أن يرفع يده وقبل أن ينزل يده يستجاب له الدعاء في التو واللحظة، يمكن له ذلك؛ لأن هذا من الكرامات، فهي ثابتة لكنها أقل درجة من المعجزة.

والأدلة على ذلك أن الله جل وعلا إذا أرسل النبي صلى الله علبه وسلم إلى قوم فمنهم السفيه ومنهم الغبي ومنهم المتغابي، ومنهم الجهول، فلا بد أن يؤذى النبي صلى الله عليه وسلم، ويصد عن الرسالة التي أرسل بها مع الأهوال التي سيقابلها، فلا بد من قوة في الآيات التي تنزل عليه، فلذلك ترى النبي صلى الله عليه وسلم نزل بأقوى ما كانوا يتمتعون به، بمعجزة هم كانوا يتمتعون بها وهي البلاغة.

وقد كان بعض الشعراء من البلاغة يقرأ الشعر من الصباح إلى المساء في الحج، وكان لا يستطيع أن ينطق حرف الراء نطقاً صحيحاً، فأتى بآلاف من أبيات الشعر، ولم يأتِ ببيت واحد فيه حرف الراء، حتى لا يبين العيب الذي فيه، من الفصاحة والبلاغة، فكانت المعجزة هذه كاسرة له، فلذلك أنزل الله هذه المعجزة؛ ليبين أن هذه من عنده، وليست من قبل النبي، بل هو أمي، لا يقرأ ولا يكتب.

وأيضاً عيسى عليه السلام شاع الطب في عصره، فأنزل الله له هذه المعجزة، أنه لا يمسح على أحدٍ حتى يبرأ، ولذلك سمي المسيح؛ لأنه ما مسح مريضاً إلا ويبرأ على يديه.

وأيضاً في عصر موسى كان السحر والتبديل أمام أعين الناظرين لقلب الأعين، فكانت تقلب حقيقة معجزة للنبي موسى.

إذاً: يحتاج النبي إلى معجزة قاصمة للظهور، أما الولي فلا يحتاج للتحدي، بل الكرامة إظهار مكانته وورعه وزهده وتقواه، حتى يتأسى به بعض الحاضرين، فلا يحتاج مثلما يحتاج النبي، فكانت أقل درجة من النبوة.

أما بالنسبة للأشاعرة فيرد عليهم بأنه لا تنقلب الأعيان للأولياء، وما حدث ذلك قط لأي ولي، ائتوني بولي واحد حدثت له كرامة تشبه معجزة النبي، أو تساوي معجزة للنبي، ما حدث ذلك قط.

أما المعتزلة فالرد عليهم أنه لا خلط بين نبي وولي، إذ إن الولي إذا حدثت له الكرامة علم أو لم يعلم، وما قام الولي خطيباً فقال: قد حدثت لي كرامة كذا وكذا، وأدعوكم إلى الله فإني رسول إليكم، أترون الولي يفعل ذلك؟ لو فعل ذلك لكان متنبئاً أفاكاً، كذاباً، أثيماً، فالولي لا يفعل ذلك فلا يبقى عند الناس، أما النبي فيقوم وسط الناس ويقول: أنا نبي، قد أرسلني الله إليكم، وإن كان الولي يفعل ذلك فإن الله يكذبه في التو واللحظة، كما قام بعض الذين ادعوا النهضوية في هذه العصور، قام في أمريكا خطيباً في الناس وادعى النبوة، وادعى أنه بعث إلى الناس وأتى بآيات الله جل وعلا، وابتلاه الله في نفس اللحظة بإسهال حتى نزل على المنبر، وبنفس المرض بين الله كذبه وزوره في نفس الوقت واللحظة، فالولي لا يستطيع أن يتحدى بالكرامة التي كرمه الله بها.

إذاً: يوجد مذهب يقول: الكرامة تساوي المعجزة وهو مذهب الأشاعرة، ومذهب يقول: لا كرامة وهم المعتزلة، ومذهب أهل السنة والجماعة يثبتون الكرامة للولي، ويقولون: هي ثابتة بالكتاب والسنة، وهي أقل من المعجزة.

هذه جملة الكلام على معنى الكرامة ومنزلتها عند أهل السنة والجماعة.