إنفاق وجود ورحمة ولين، ثم في الجانب الآخر من شخصيته كان فيه القوة وفيه الثبات والعزيمة حتى عند الأحزان، فعندما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي ارتجت المدينة وزلزل المؤمنون زلزالاً عظيماً، فمنهم من قال: رسول الله لم يمت، ومنهم من سكت ولم يتكلم، ومنهم من خر مغشياً عليه، حتى إن عمر أخذ سيفه وقال: من قال: إن رسول الله قد مات لأعلونه بسيفي، فإن رسول الله ذهب إلى ربه أربعين ليلة كما ذهب موسى، وسيرجع وليقطعن أيدي وأرجل المنافقين، ثم جاء أبو بكر وكان في العوالي، جاء يعلمهم ويعلمنا القوة والعزم الثبات عند الحيرة والاضطراب، جاء أبو بكر ودخل فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم -بأبي هو وأمي- فكشف عن وجهه الغطاء وقبل بين عينيه وقال: فداك أبي وأمي يا رسول الله، عشت حياً وميتاً، لا يجمع الله لك الموتتين، وهذا معناه أن الموتة الأولى هي موتة الدنيا، والموتة الثانية هي الموتة التي في القبر، وقد سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم نوم العروس، فالرسول صلى الله عليه وسلم لا تأتيه في البرزخ هذه الموتة؛ لأن الأنبياء أحياء، ثم خرج رضي الله عنه فقال لـ عمر: اسكت، فذهبت الحيرة والاضطراب، ثم قام على المنبر وقال: أيها الناس! إن محمداً قد مات فمن كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم تلا عليهم قول الله تعالى:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا}[آل عمران:١٤٤].
قال عمر: فلما سمعت هذا أغشي علي، وكأني لم أسمع هذه الآية إلا حين تلاها أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، فانفض الناس، ومشوا في سكك المدينة يتلون:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ}[آل عمران:١٤٤]، وثبت الله جل وعلا المدينة بأسرها بسبب هذا الرجل الجبل الشم الشامخ رضي الله عنه وأرضاه.
موقف آخر من ثباته رضي الله عنه، هذا الموقف في صلح الحديبية، عندما قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الصلح؛ لأنه يريد من الناس أن يدخلوا في دين الله أفواجاً، فليسمع المتنطعون الذين يقولون: انتشر هذا الدين بالسيف، والله لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع سيفه إلا في وجه العدو العاتي الذي يريد محق بركة هذا الدين الإسلامي، ومحق هذه الدعوة، فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الصلح وشروطه، فقال عمر بن الخطاب حين رأى هذه الشروط، ومنها قول كفار قريش: من جاءكم منا مسلماً لا بد أن تردوه علينا، ومن جاءنا منكم لا نرده عليكم، فقال عمر: يا رسول الله! ألسنا على الحق؟ قال:(بلى، قال: أليسوا على الباطل؟ قال: بلى، قال: فلم نعطي الدنية في ديننا، فقال: أنا رسول الله، ولن يخزيني الله، فقال له: يا رسول الله! أما قلت لنا: إننا نأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى، ولكن أقلت لك: هذا العام؟ قال: لا، قال: فإنك تأتي البيت وتطوف به)، فـ عمر لم يستطع أن يحتمل هذه الشروط، فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له هذا الكلام، ثم إنه ذهب إلى أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه فقال: يا أبا بكر ألسنا على الحق؟ قال: بلى، قال: أليسوا على الباطل؟ قال: بلى، قال: فلم نعط الدنية في ديننا؟ قال: هو رسول الله، ولن يخزيه الله، ثم قال عمر: ألم يقل لنا أننا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: أقال لك تأتي هذا العام؟ قال: لا، قال: فإنك ستأتي البيت وستطوف به.
فـ أبو بكر لم يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نزل عليه وحي ولكنه توافق القلوب، فبهذا ثبت عمر وثبت الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، وصدق القائل: إن لله عباداً يجعلهم لتثبيت العباد، الله جل وعلا ينصب عباداً للأوقات الشديدة الحالكة حتى يثبت بهم عباده الذين يمكن أن يرتجفوا عندما تتوالى الأمور والأحداث، وكان سيدهم أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه.
وعندما كفر من كفر من العرب، وارتد من ارتد منهم، ومنع الناس الزكاة، واشتد الأمر على المسلمين، ورمت العرب الإسلام بقوس واحدة، واشرأبت أعناق اليهود والنصارى، فكان لا بد من استئصال هؤلاء الذين يريدون القضاء على الدولة الإسلامية، ولا بد من قتلهم أجمعين، فقام أبو بكر بقتال هؤلاء، حتى إن عمر القوي في دين الله، الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم:(وأقوى هذه الأمة في أمر الله عمر)، قال له: ارفق بالناس يا أبا بكر! فقال له أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فقال له عمر: كيف تقاتل قوماً قالوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله؟ فإن منعوك الزكاة فلا تقاتلهم، بل ارفق بهم حتى يرجعوا إلى حظيرة الإسلام، فقال أبو بكر رضي الله عنه: والله لو منعوني عناقاً أو عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه، قال عمر: والله لقد وجدت أن الحق مع أبي بكر؛ لأن أبا بكر شد عليه وقال: أردت نصرتك فتأتيني بخذلانك! أجبار في الجاهلية خوار في الإسلام! والله لأقاتلنهم والله لأقاتلنهم، ثم نزل على رأيه وقاتل مانعي الزكاة، وكان هذا القتال أول تثبيت لعروش أهل الإسلام في هذه الآونة الصعبة.