[فضل طلب العلم ومكانة طالبه]
إن شمس البدعة بزغت، ولن يتصدى لها إلا طالب علم يحقق المسائل ويدقق النظر في الأدلة، قال بعض السلف رحمهم الله: ما انتشرت بدعة إلا وأخمدت سنة، ولما انتشرت البدع أميتت السنن، وانقلب الحال، فأصبحت السنة بدعة والبدعة سنة، فوجب على طالب العلم أن يصبر على طلب العلم، قال الإمام أحمد: ما رأيت أفضل من طلب العلم لمن أخلص نيته، وقال الشافعي: طلب العلم أفضل من قيام الليل ومن الصيام ومن الصدقة.
بل إن طلب العلم أفضل من الجهاد، والعالم أفضل من المجاهد، وهذا في جهاد النافلة لا جهاد فرض العين، فطلب العلم أفضل من سبعين باباً من أبواب الجهاد، وضربنا مثلاً بما فعله الشافعي مع أحمد، لما ذهب إليه وأكل عنده كثيراً، وجلس طيلة الليل على الفراش فحسبته ابنة أحمد أنه نام، ثم قام فصلى الفجر بوضوء العشاء، فقالت ابنة أحمد: يا والدي! لقد أخذت على الشافعي ثلاثاً، قال: هاتها: قالت: أكل كثيراً، ونام كثيراً، وصلى الفجر بغير وضوء، فاستشكل أحمد فسأله عن ذلك فقال له الشافعي: أما طعامك فطعام الصالحين، فعلمت أنه مليء بالبركة، فأكثرت الأكل منه، وفي هذا فقه وفطنة من الشافعي، ثم قال الشافعي: وأما إني لم أصل من الليل فقد جلست أفكر في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أبا عمير! ما فعل النغير؟)، فاستخرجت منه أكثر من عشرين مسألة، ولو جلست المجامع الفقهية في الكويت، والمجامع الفقهية في مصر والمجامع الفقهية في السعودية ليلة كاملة، ثم خرجوا بخمس مسائل فجزاهم الله خيراً، فالحديث خمس كلمات أو ست كلمات يستخرج منها الشافعي مسائل، ولذلك كان الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمة لله عليه يتأمل في الأدلة، وبلغني عمن لازمه من طلبة العلم قال: كان أفضل ما يدهشنا من الشيخ أنه كان ينظر في الدليل ويتأمل فيه.
والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)، ولذلك تجد أحدهم يجلس بجانبنا من الفجر إلى الظهر، يسمع الصحيحين، وبعدها يسمع بقية الكتب الستة، وهذا جيد فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها) لكن إذا سألته عن الفقه وجدته لا يفقه شيئاً.
ولذلك أفضل العلماء من خلط بين الفقه والحديث، وكان وتداً في العقيدة، فطالب العلم الذي يخلو عقله من العقيدة أو من الفقه أو من الحديث طالب ضعيف؛ لأنه سيضعف أمام المسائل، فلا بد من الاجتهاد والإخلاص، وأذكر أن شيخ الإسلام ابن تيمية قال: إذا جاءك الحديث فلك فيه طريقان: إثبات سنده، وفهم متنه، وفهم المتن رأس الأمر.
قال الشافعي لـ أحمد: وأما صلاة الفجر فإني صليتها بغير وضوء، فما نمت من العشاء إلى الفجر.
عند ذلك قال أحمد وهو إمام أهل السنة والجماعة وهو الفقيه والمحدث بحق: هذه التي لا نقوى عليها، وهذه التي هي أنفع للأمة من صلاة الليل، يعني: أن أمة لا تنتفع إلا بمثلك؛ لأنك تخرج على الأصول الفروع فتنتفع بها الأمة.
فنحن في زمان عز فيه الطلب، فتجد كثيراً من الناس ما عندهم صبر، وهذا هو الذي يضيع عليهم الخير؛ لأن الترف أضاعهم، وأبشرهم بما يحزنهم، حتى يجعلوه خلف ظهورهم، قال الإمام مالك: لن يصل إلى هذا العلم إلا من أدقعه الفقر، أي نام في العراء، ولم يجد طعاماً ولا شراباً فهو الذي يصل إلى هذا العلم، فنقول: إن أنعم الله عليك بالمال فاستخدمه في رضا الله وفي طلب العلم، وإذا جلست في مجالس العلم، فاصبر وصابر وستصل بإذن الله، فالأمة الآن تحتاج إلى علماء، كما أهيب بالإخوة أن يصبروا، ويصابروا.
لا تحسب المجد تمراً أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا فاتقوا الله في أنفسكم، والله الله في العلم، واعلموا أن قيام الساعة لن يكون حتى يضيع العلم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لن تقوم الساعة حتى يرفع العلم، ويكثر الجهل، وإذا كثر الجهل اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسألوهم فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا).
فاعلموا حفظكم الله أن النجاة في العلم، وكفى بطالب العلم شرفاً أن يكون وريثاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكفى به أنه ليس بينه وبين النبي إلا درجة النبوة، فلمثل هذا فليعمل العاملون، ولمثل هذه المكانة تشرئب الأعناق، فهذه المكانة فوق مكانة المجاهدين، وبين العالم المجد وبين غيره تفاوت في الدرجات، فكن عالماً أو كن متعلماً، ولا تكن الثالث.
أنا لا أريد أن تكون محباً لأهل العلم فقط حتى لا تكون ذيلاً، وعلى الإنسان أن يربأ بنفسه أن يكون ذيلاً لأحد، واسأل نفسك: لم لا أكون رأساً، إن لم أكن مثل أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، فلم لا أنحو نحوه، وأحذو حذوه، وأسير على دربه؟ لم لا أتخذ شيخ الإسلام ابن تيمية نبراساً أمامي، يكون هو الذي تشرئب عنقي إليه، حتى أصل إليه، وإن لم أصل إليه أسير على دربه؟ فالناس بحاجة إلى العلماء، مثل حاجتهم إلى الماء والهواء أو أكثر، فانشغلوا بالعلم، فالعلم أفضل طاعة تطيعون الله بها، والعلم هو أفضل ما تقدمه بين يديك يوم القيامة، فإذا كنت من العلماء وقفت خلف الأنبياء.
فالناس لهم صفوف ولهم درجات عند الله يوم القيامة، فإذا كنت عالماً كانت درجتك تحت النبي، فلماذا تريد أن تكون في الأسفل؟ إن الله يحب عالي الهمة، فأنا أهيب بإخوتي أن ينشغلوا بالعلم، وينقضوا عليه، ويجتهدوا، فلا تنم إلا قليلاً، ولا تأكل إلا قليلاً، واجعل غذاءك العلم، وكما قيل: الرزق رزقان، رزق القلوب، ورزق الأبدان، ورزق القلوب أفضل وأروع من رزق الأبدان؛ لأنه هو الذي به النجاة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.