للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الرد على الأشاعرة في تأويلهم لآيات الاستواء]

الأصل في اللفظ أنيحمل على الظاهر حتى تأتي قرينة تؤوله من الظاهر إلى المؤول، قال الأشاعري: عندنا المؤول من اللغة، وهو بيت الشعر.

قد استوى بشر على العراق من غير سيف أو دم مهراق فنقول: أولاً: هذا ليس ببيت عربي، وأهل اللغة قاطبة لا يعرفون هذا البيت، ولا يقرون به، بل هذا البيت لرجل نصراني، وليس بعربي أصيل، فأهوينا هذا الدليل.

ثانياً: إذا تنزلنا معهم وقلنا: إن هذا البيت عربي أصيل، من عرب أقحاح، وإذا نظرنا فيه وجدنا أن هناك قرينة تجعلنا نقول بأن الاستواء في هذا البيت الاستيلاء، للقرائن المذكورة وهي: من غير سيف أو دم، مهراق.

قد استوى بشر على العراق من غير سيف ولا دم مهراق فالسيف لأجل العلو والاستقرار أم لأجل القتال والاستيلاء؟ فلزاماً يأول الاستواء: بالاستيلاء، لقرينة السيف والدم المهراق، لأن هذه من لوازم الاستيلاء والمغالبة.

إذاً: هذا ليس بيتاً عربياً أصيلاً فلا يؤخذ به، وإن تنزلنا وقلنا: هو بيت عربي، والأصل والظاهر أن استوى بمعنى العلو والاستقرار، وهناك قرينة من نفس البيت أولت العلو والاستقرار إلى الاستيلاء، هذه القرينة هي: ذكر السيف، وعدم إراقة الدماء، وقوله: استوى بشر على العراق، لا يعني: علا واستقر بغير سيف ودم مهراق؛ لأنه دخل بالغلبة والاستيلاء، وأدوات الحرب جعلتنا نؤول الاستواء بمعنى الاستيلاء، أما في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥]، لا يوجد أي قرينة من الكتاب ولا من السنة ولا من لغة العرب تصرف المعنى إلى استولى، وفي هذا الكتاب أكثر من أثر فيه: لا نعرف في لغة العرب أن الاستواء بمعنى: الاستيلاء بل الاستواء في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥]، بمعنى: علا واستقر.

يبقى لنا من شبهاتهم اللوازم التي ألزمونا بها، وليست بلازمة، اللازم الأول أنهم قالوا: لو قلنا: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥] بمعنى: علا واستقر، حدثت المماسة، أي: مس الرحمن العرش، والمماسة تدل على الحد؛ لأن العرش محدود، فإذاً: جعلنا لله حداً، فنقول لهم: ننظر في هذا اللازم هل هو باطل أم حق حتى نعمل به، والحد كلمة واصطلاح من المتأخرين لا من المتقدمين، وقد قعدنا قاعدة عقيدية للإخوة الأفاضل في الكلمات المبهمة في العقيدة وكيف نتعامل معها فلا ننفيها ولا نثبتها، ولكن نسأل عن المقصود منها؛ لأننا لو نفيناها لعلها لله جل وعلا، فنكون نفينا شيئاً في حق الله أثبته الله جل وعلا لنفسه، ولو أثبتناها لربما كانت منفية عن الله جل وعلا لنفسه، وهذه لفظة مجملة لا بد أن نفصل فيها ونعلم مقصودكم من الحد، إن قصدتم بالحد التمييز، يعني الله جل وعلا عال على عرشه بائن من خلقه فهذا حق، فنحن نؤمن به ونقول به، ومعنى الحد هنا: التمييز، تمييز بين الخالق وبين المخلوق لا كما تقول الصوفية وابن سينا وابن عربي، هؤلاء الكفرة الذين قالوا: لا فرق بين الخالق والمخلوق، فإن قصدوا في الحد أنه: التمييز وأن الله بائن من خلقه، فوق عرشه والخلق؛ فهذا صحيح -إن صح التعبير- فالله بائن من خلقه، والحد بمعنى: التمييز فهذا حق ونحن نقول به، وإن كنتم تقصدون أن الحد معناه: التجسيم، أي: أن الله جسم، فهذا لا نقبله، بل نرده عليكم، وما جركم إلى ذلك إلا أنكم شبهتم الخالق بالمخلوق، ونرد عليكم بثلاثة أمور: أولاً: أنتم قلتم: المماسة تكون بالحد، أي أن الله جل وعلا له حد، فكيفتم صفات الله جل وعلا، فنقول لكم: هل رأيتم الله لتكيفوا الصفة، وتبينوها لنا، وتقولوا: إن هذا حد؟ وهل رأيتم مثل الله؟ وهل أخبركم الثقة الصادق المصدوق أن الله جل وعلا إذا استوى على العرش كانت هذه مماسة وحداً؟ ستجيبون: بلا، إذاً: لا رأيتم الله، ولا رأيتم مثيله، ولا أخبركم الصادق المصدوق بهذا، فإذاً قد افتريتم وأتيتم ببهتان وزور، ولا يقبل كلامكم، وكيفتم ونحن لا نكيف، والصحابة أجمع لا يكيفون، وقد قالوا: الاستواء في اللغة معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.

إذاً لو قلتم: إن هناك مماسة وحداً، فإن قصدتم بالحد التمييز، والله بائن من خلقه فنحن نقول بذلك، فنكون قد اتفقنا وما افترقنا، وإذا قصدتم بذلك تكييف الصفة، فنحن بقول: بأن الله علا على العرش واستقر وهو غير محتاج إلى العرش حاشا لله! قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ} [فاطر:١٥]، فمن باب أولى أن يكون العرش محتاجاً إلى الله جل وعلا، والسماوات فقيرة إلى الله جل وعلا، والشمس والقمر فقيران إلى الله تعالى، وكل ما في الكون فقير إلى الله، والله هو الغني، فالله أثبت أنه الغني، فهو الغني وله الغنى المطلق، وكل الخلائق محتاجة إلى الله جل وعلا، فقيرة إليه.

وإذا قلتم: إن الله علا واستقر فهو محتاج للعرش، فقد كيفتم استواء الله جل وعلا، وهذا التكييف مردود كما قلنا في سابقه، فالأشعرية أولوا الاستواء بالاستيلاء وليس لهم وجه في ذلك، حتى البيت الذي قالوا: هو مسوغ لنا، ليس بعربي أصيل، واللوازم الباطلة التي ألزمونا بها ليست بلازمة.