للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[خطر الكذب]

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:١٠٢].

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:١].

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:٧٠ - ٧١].

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار.

ثم أما بعد: إخوتي الكرام! فمازلنا مع هذا الكتاب المبارك للإمام العلامة اللالكائي شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة, وبعدما ساق هذا العلامة السياق البديع في الرد على المرجئة، وتكلم على حكم أهل الكبائر وعدد من الكبائر ما عدد، ساق بعد ذلك بالتناسق البديع ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في جواز الكذب للإصلاح، والكذب من الكبائر أيضاً، ولو لم يفرد الكذب بالكلام على أنه من الكبائر، لكنه يفهم من خلال السياق، ثم تكلم عما يمحو الكبائر، وهل تشترط في الكبائر التوبة أم أنها تمحى بالمكفرات؟ ذكر هنا سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في جواز الكذب للإصلاح، وهذه استثناءات من القاعدة العريضة المستقاة من الكتاب والسنة، فالغرض المقصود: أنه ألمح إلى دخول الكذب في ضمن الكبائر ولم يصرح، وهل يكون مرتكب الكبيرة خالداً في النار إذا مات مصراً عليها، أم أن شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم تنفعه ويكون داخلاً تحت مشيئة الله جل في علاه؟ وقد أردف المؤلف هذا بذكر شفاعته صلى الله عليه وسلم الخاصة بأصحاب الكبائر.

فنتكلم عن الكذب ونقول: الكذب لغة: ضد الصدق, واصطلاحاً: هو الإخبار بخلاف الواقع، كأن تقول مثلاً: انتصر الروم، والروم قد هزموا، وهذا ما قرره الحافظ ابن حجر في تعريف الكذب اصطلاحاً.

والكذب مذموم شرعاً, وهو من الكبائر، فقد ذمه الله جل وعلا في كتابه وذمه النبي صلى الله عليه وسلم في سنته، فقال الله تعالى مبيناً لنا أن العذاب الشديد الأليم يكون لأهل الكذب والفجور: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [الأنعام:١١]، وبين أن لعنته جل وعلا تنزل على الكاذبين المكذبين لله جل وعلا ولرسوله, وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (آية المنافق ثلاث) وفي رواية قال: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً - وذكر منها- إذا حدث كذب)، فعدها من الكبائر التي يتصف بها المنافقون، وبين النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً عظم خطر الكذب، فقد جاء في السنن أو في مسند أحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن العبد ليصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإن الكذب -هنا عظم الخطر- وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن العبد ليكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذباً) والعياذ بالله.

وعواقب الكذب وخيمة في الدنيا والآخرة: كمحق البركة من الرزق والبيت بأسره، فقد قال صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين-: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما, وإن كنتما وبدلا محقت بركة بيعهما)، فبالكذب تمحق البركة، بل الأشد من ذلك والأنكى يكون في الآخرة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم يوم القيامة ومنهم الكذاب).

وهنا مسألة مهمة وهي: هل الله عز وجل لا يكلم أحداً يوم القيامة ولا ينظر إليه سواء كان مؤمناً أو كافراً؟

الجواب

هذا عام خصص بقوله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان) وما منكم من أحد: نكرة في سياق النفي فهي تفيد العموم، فوجب تأويل النص السابق: بأنه لا ينظر إليهم نظر رحمة، ولا يكلمهم بعطف ورفق وما أشبه ذلك.

مسألة أخرى: هل يرون الله عز وجل في المحشر على خلاف صورته أم لا؟

الجواب

لا، بل يرون الله على ما هو عليه، قال صلى الله عليه وسلم: (يأتيهم الله جل وعلا في صورة غير التي يعرفونها, فيقول: ما تريدون؟ يقولون: ننتظر ربنا، قال: أتعرفونه؟ قالوا: نعرفه بعلامة بيننا وبينه)، فلم يأتهيم على نفس صورته، لكنه يكشف العلامة لعباده وهي الساق، فإذا كشف عن ساقه جل وعلا سجد الكل إلا المنافقون؛ فإن ظهورهم تصير كالرخام طبقة واحدة، والله أعلم.

والحق أن الكذب أصبح فساده مستشرياً عريضاً في المجتمعات، والكذاب قد يهدم بيوتاً بل مجتمعات بأسرها، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه من الكبائر، فإن كان من الكبائر فعلى العبد أن ينأى بنفسه عن أن يكون كذاباً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل كما في السنن: (أيكون المؤمن بخيلاً؟ قال: نعم, أيكون المؤمن جباناً؟ قال: نعم، ثم قيل له: أيكون المؤمن كذاباًَ؟ قال: لا)، فلا يجتمع الكذب والإيمان في قلب مؤمن أبداً، فإذا رأيت العبد يكذب فاعلم أن هذه إشارة وعلامة على أنه ليس بمؤمن الإيمان الكامل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل: (أيكذب المؤمن؟ قال: لا) فالكذب حرام، بل إنه كبيرة من الكبائر التي تدخل في مسألة الخلاف الذي تكلمنا عنه في مسألة المكفرات, وهل الأعمال تكفر الكبائر أم لا؟