للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أصناف الناس بالنسبة لتعريف الإيمان]

فهذا هو مجمل الكلام بالنسبة لتعريف السلف للإيمان، أي: أنه قول وعمل، والناس بالنسبة لهذا التعريف على أربعة أصناف: الصنف الأول: من توفر عنده قول القلب، فاستقر في قلبه يقيناً وجزماً أن الله هو الخالق الرازق المدبر الآمر السيد المطاع، الناهي المستحق للعبادة وحده، لكنه لم يتلفظ بلسانه، ولم ينقد بجوارحه ولا بقلبه، فهذا الصنف، هو كافر ظاهراً وباطناً، نحاربه حتى يقول: لا إله إلا الله أو يدفع الجزية، وفي الآخرة هو خالد مخلد في نار جهنم؛ لأنه استيقن في قلبه وجحد ولم ينقد بجوارحه.

مثال ذلك: عم النبي صلى الله عليه وسلم، هو أول الأمثلة التي تقال في هذا الباب، فإنه استقر في قلبه يقيناً بأن دين النبي صلى الله عليه وسلم هو خير الأديان، وأن النبي صلى الله عليه سلم صادق مصدوق، وأنه يوحى إليه، وأن الله هو المستحق للعبادة، وأن هذا الدين هو أفضل الأديان على الإطلاق، ومع ذلك لم ينقد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم لا لشرع الله، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأنه في ضحضاح من نار جهنم.

المثل الثاني الذي يبين لنا أن من استقر في قلبه يقيناً بالربوبية والإلهية وصدق بالرسول ولم ينقد له أنه من أهل النار: هو الوليد بن المغيرة، فقد جلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن، فلما سمع القرآن قال لـ أبي جهل: والله لقد جلست مع الشعراء وليس هذا بشعر، وجلست مع الكهنة وليس هذا بتكهن، ومدح القرآن بالكلمات المشهورة المعلومة عنه، فكان أبو جهل يعلم أن هذا الرجل يحب المال، انظروا إلى الذي استحب الدنيا على الآخرة، وقدم الدراهم المعدودة الفانية على الآخرة الباقية، فقال أبو جهل: يا عم أو يا خال، قد رجعت من عند الناس، وقد جمعوا لك الأموال حتى تتكلم لنا في محمد، أو تقول فيه قولاً، فقال القول المشهور، كما جاء ذلك في سورة المدثر: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:١٨ - ٢٥]، فقال الله تعالى: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر:٢٦]، عقاباً له؛ لأنه استيقن بقلبه أن هذا الكلام هو كلام الله، وليس من الشعر ولا من الكهانة في شيء، ومع ذلك طمس الله على قلبه، وطمس بصيرته، نعوذ بالله من ذلك، فإذا ختم الله على قلب أحد فقد انتهى أمره، وكانت نهايته إلى بوار، ولو اجتمع أهل الأرض على أن ينفعوه أو يهدوا قلبه فلن يفعلوا ذلك؛ لأن الأمر بيد الملك المقتدر.

المثل الثالث: أبو جهل نفسه، وإن وردت القصة التي سأذكرها لكم بأسانيد ضعيفة، لكنها تبين ما لـ أبي جهل من حقد دفين، وحسد كبير على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قال: والله إني لأعلم أنه لصادق - أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم- وأعلم أنه نبي، لكن كنا وبنو هاشم-يعني: نحن وبنو هاشم -كفرسي رهان، نتسابق في العلو والمنزلة والشرف، يقولون: منا كذا، ونقول: منا كذا، فقالوا: منا نبي، فأنى يكون لنا نبي، والله لا نصدقه أبداً.

فهذا يدل على الحقد الدفين الذي في قلبه، فقد استيقن بصدق الرسول، ومع ذلك جابه الرسول وقاتله قتالاً عنيفاً، وصدق فيهم قول الله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:١٤]، نعوذ بالله من ذلك، فقد استقر في قلوبهم الحق ولكن لم ينقادوا له.

ورئيسهم في ذلك -وهو آخر مثل نضربه-: هو إبليس عليه لعنة الله، فقد استقر في قلبه بأن الله أمره أمراً، وهذا الأمر فيه مصلحه له، لكن الكبر والعناد جعلاه لم ينقد لله جل وعلا، وهو يعلم أن الله جل وعلا أمره بذلك ليختبر انقياده لأوامره جل وعلا، فإن هذا الأمر كان لتشريف آدم، لكن الأصل هو أن الله جل وعلا أراد أن يكشف المعلوم في إبليس، كما قال ابن كثير في تفسير قول الله جل وعلا: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:٣٠]، قال: يعلم الله من إبليس أنه يجحد أمره وأنه يتكبر، فابتلاه بالسجود، فإبليس كان مستيقن بربوبية الله جل وعلا، وكان مستيقن بأن الرسول الذي بعث في الأمة حق، ومع ذلك يغوي الناس، وجحد بآيات الله جل وعلا.

الصنف الثاني بالنسبة للإيمان: صنف أتى بقول اللسان، بل وانقاد بالجوارح، ولكن خلا قلبه من التصديق من الانقياد، نعوذ بالله أن نكون كذلك، وهؤلاء هم المنافقون، وقد وصفهم الله بقوله: {فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} [التوبة:٤٥]، شك كبير، كما قال تعالى حاكياً قولهم: {وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} [هود:٦٢]، وقال عنهم: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ} [النساء:١٤٣].

فهؤلاء لهم ما لنا وعليهم ما علينا، في الدنيا، أي: أن لهم الأمان، وعصمة الدم، وعصمة المال، والغنائم والفيء تقسم عليهم، ولهم المناكحة منا والتوارث، ولنا المناكحة منهم والتوارث، ولكن في الآخرة هم في الدرك الأسفل من النار، قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:١٤٥].

فهؤلاء توفر فيهم قول اللسان، فقد قالوا: لا إله إلا الله، وكثير من الناس ممن تتعايشون معهم، قد طفح النفاق من قلوبهم، ونضح حتى في أعينهم، وعلى ألسنتهم بالكلام، فهؤلاء قد قالوا: لا إله إلا الله، بل وانقادوا، فهم يصلون معنا، ويستقبلون قبلتنا، ويذبحون كما نذبح، ويسبحون كما نسبح، وينفقون كما ننفق، وهم في الدرك الأسفل من النار؛ لأنهم لا يتحاكمون إلى الله جل وعلا، وإذا خلوا إلى بمحارم الله انتهكوها، وهم لا يقومون إلى الصلاة إلا كسالى، قال الله عنهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ} [البقرة:٨ - ٩]، وقال في آية أخرى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:١٤٢].

الصنف الثالث بالنسبة للإيمان -الذي هو قول وعمل-: أناس توفر فيهم قول القلب، وهو التصديق والإقرار، وتوفر فيهم قول اللسان، لكن لم تنقد الجوارح ولم ينقد القلب، فقالوا: لا إله إلا الله باللسان، أقروا وبالقلب بأنه لا معبود بحق إلا الله، فهؤلاء هم الذين حدث فيهم الاختلاف، وهؤلاء هم الذين ندخل مع أهل البدع المعترك الدامي في الخلاف فيهم: هل هم مسلمون أم منافقون أم كفار؟ وسوف نرجئ هذا الخلاف العريض حتى نتكلم عن مرجئة الفقهاء، وكيفية نرد عليهم.

الصنف الرابع: هؤلاء الذين حباهم الله ومنحهم: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ} [النحل:٥٣]، منحهم الله قول اللسان، وقول القلب: التصديق والإقرار، وعمل الجوارح، وعمل القلب أيضاً، وهؤلاء ينقسمون إلى ثلاثة أقسام، وجاء تقسيمهم هذا في آية واحدة من كتاب الله، وهي قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر:٣٢]، فأكثر المفسرين قالوا: الظالم لنفسه: هو الذي اقترف الذنوب والآثام، ومع ذلك هو مقر بخطيئته، ويعمل عملاً صالحاً.

والمقتصد: هو الذي أدى الفرائض، وترك المحرمات ولم يرتق بالسنن.

أما السابقون بالخيرات: فهم الذين أدوا الأوامر والفرائض، وارتقوا بالنوافل المطلقة والنوافل الراتبة، وانتهوا عن المحرمات.

هذا تفسير أكثر المفسرين لهذه الآية، لكن عائشة رضي الله عنها وأرضاها فسرت الآية بطريقة أخرى، بأن السابق للخيرات: هو الذي ينفق ويصلي ويصوم، وقلبه وجل أن لا يقبل عمله عند الله جل وعلا، أي: يخشى من مكر الله جلا وعلا.

والمقتصد: هو الذي يسارع أيضاً في الخيرات لكن أقل من الأول، ثم قالت لـ عروة: أما الظالم لنفسه فمثلي ومثلك، هذا الكلام تقوله عائشة رضي الله عنها وأرضاها لـ عروة، الذي يعتبر أحد الفقهاء السبعة، وهو أكثر من روى عن عائشة، وهو الذي وقف أمام الكعبة وقال: اللهم اجعل الناس تحمل عني الحديث، فحمل الناس عنه الحديث، وكان من الفقهاء المعدودين، ومع ذلك قالت له عائشة: أما الظالم لنفسه فمثلي ومثلك، نسأل الله العفو والعافية.

نحن الآن في زمن الذي يصلي فيه الفرائض ويجتنب المحرمات دون المكروهات، ويترك النوافل، فهذا من أولياء الله الصالحين، فبحق: نحن أصلاً نحتقر أنفسنا أمام القوم الذين سبقونا، نسأل الله جل وعلا أن لا يفضحنا أمامهم.

المقصود: أن الصنف الرابع من أهل الإيمان هم المؤمنون الذين توفر فيهم قول اللسان وقول القلب، وعمل الجوارح وعمل القلب، ولابد أن نعرف العلاقة بين عمل الجوارح وعمل القلب؛ لكي نقوى على فهم الخلاف فيما بعد، فإن هذه العلاقة إما علاقة تباين، أي: لا توجد علاقة بينهما، وإما علاقة تلازم وارتباط وثيق، بحيث لا يمكن أن ينفك أحدهما عن الآخر، فإذا زال عمل القلب زال عمل الجوارح، وكل إناء بما فيه ينضح، إن كان فيه خير نضح بالخير، وإلا فلا، والعلاقة بحق: هي علاقة تلازم وارتباط، وعلى ذلك أدلة من الكتاب والسنة وأقوال السلف.