[حكم الساحر الذمي]
المسألة الأخيرة: هل يقام الحد على الساحر الذمي؟ صورتها أن يأتي رجل من أمريكا أو من بلاد الأدغال إلى بلادنا مثلاً بتأشيرة أعطاه إياها ولي الأمر، فهذا دخل بأمان، فإن كان ساحراً فسحر الناس هل هذا يقام عليه الحد أو لا؟ الجمهور على أن الذمي لا يقام عليه الحد، واستدلوا على ذلك بحديث طويل في الصحيحين وفيه: (أن لبيد بن الأعصم سحر النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وهو من اليهود من أهل الذمة، وهذا فيه دلالة واضحة على أنه لا يقتل.
وقالت الأحناف: بل يقتل، والراجح في الأثر والنظر مع الأحناف أنه يقتل؛ إذ إننا لو نظرنا إلى الكافر على الإطلاق لوجدناه على نوعين: الأول: كافر حربي وهذا يقتل ويهدر دمه أصالة من غير أن يسحر أحداً.
الثاني: كافر ذمي لنا معه عهد وأمان وذمة، فعليه دفع الجزية، فنأخذ منه الجزية، وإذا أضر بالمسلمين فقد نقض العهد؛ لأن شرط أخذ الجزية عليهم أنهم لا يضرون بالمسلمين، فإذا آذوا المسلمين فقد خالفوا عقد الذمة بيننا وبينهم، وينتقض عهد الذمة، فيقتل ساحرهم، ويرجع إلى أصله من كونه حربياً، فيقتل لأنه حربي أو لأنه ساحر، وهذا الراجح الصحيح.
وأما الرد على حديث لبيد فنقول: لدينا قاعدة قعدها النبي صلى الله عليه وسلم وطبقها ليعلمها الناس قولاً وفعلاً، فأما قولاً: فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة -كما في الصحيحين-: (لولا أن قومك حديثو عهد بالكفر -أو بالجاهلية- لهدمت الكعبة)؛ لأنها لم تقم على قواعد إبراهيم، (ولبنيتها على قواعد إبراهيم، ولجعلت لها باباً يدخل منه الناس وباباً يخرج منه الناس)، فقريش جعلت الباب عالياً من أجل أن يدخل الشرفاء فقط، ولو دخل غيرهم دفعوه فلا يدخل، وحتى الآن لا يدخلها أي أحد، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يتمنى أن يجعلها على قواعد إبراهيم، ويجعل لها بابين: باباً يدخل منه كل الناس، وباباً يخرج منه الناس، والذي منع النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك أنه قال: (لولا أن قومك حديثو عهد بكفر)، فقعد قاعدة مهمة جداً وهي: أن درء المفاسد أولى من جلب المصالح، فالمصلحة أن يبني الكعبة كما بناها إبراهيم عليه السلام، لكن المفسدة أعظم وهي أن قريشاً لم يسلموا إلا حديثاً فقد يقولون: لماذا يهدم الكعبة التي عظمناها وشرفناها وعظمها الله، فقد يؤدي بهم ذلك على الكفر والردة، فالنبي صلى الله عليه وسلم درء هذه المفسدة لجلب المصلحة الكبرى وهي: أن يبقوا على الإسلام.
وأيضاً النبي صلى الله عليه وسلم سبه عبد الله بن أبي بن سلول، وسبه كثير من المنافقين فلم يقتلهم النبي صلى الله عليه وسلم، وقد استأذن عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد النبي صلى الله عليه وسلم في ضرب أعناق هؤلاء، ففي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأرضاه قال: (بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قسم قسماً، فأتاه ذو الخويصرة -رجل من بني تميم- فقال: يا رسول الله! اعدل!)، وفي رواية أخرى قال: (هذه القسمة ما أريد بها وجه الله)، (فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ويلك! ومن يعدل إذ لم أعدل أنا؟! فقام عمر فقال: يا رسول الله! ائذن لي أن أضرب عنقه، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: دعه فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين -يعني: يخرجون- كما يمرق السهم من الرمية)، فانظروا الفارق بين العلم والجهل، والعالم والجاهل، فالرجل يتعبد ليلاً ونهاراً: صياماً وقياماً ولا يزن عند الله بعوضة، فالشاهد من الحديث أن عمر قال: (ائذن لي أضرب عنقه)، فأبى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وفي رواية قال: (لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه)، فدرأ هذه المفسدة لجلب مصلحة أكبر؛ حتى يثبت الناس على الإسلام ولا يتحدث أحد أن محمداً صلى الله عليه وسلم يقتل أصحابه.
فالإجابة عن هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل لبيد بن الأعصم حتى لا يؤلب عليه اليهود؛ إذ إن العرب قد رمته عن قوس واحدة، فكل العرب قاطبة اتفقوا عليه، ولما قالت عائشة: (ألا تنتصر؟ قال: لا أنتصر؛ قد شفاني الله جل وعلا)، فهذا هو الجواب عن هذا الحديث.
فالقاعدة إذاً: درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة، وأما الآن: لو وجدنا ساحراً يسحر الناس ويؤذيهم ويستعمل الشياطين، فلا بد من رفع أمره إلى ولي الأمر حتى يقيم عليه الحد، أو يحبسه كما يرى إن كان المسألة فيها تعزير دون الحد.
وهذا ختام لباب السحر، ويبقى لنا جزء واحد في باب السحر وهو: سحر النبي صلى الله عليه وسلم، وقول المعتزلة الذين ردوا الحديث الذي في الصحيحين، فهل سحر النبي صلى الله عليه وسلم أم لم يسحر؟ وهل أثر ذلك على نبوته ورسالته أم لم يؤثر؟ فسنرد على المتنطعين الذين ردوا الحديث الذي في البخاري ومسلم، ثم نثني بالكلام عن الجن واللبس والصرع، وكيفية علاج ذلك، ثم بعدها ندخل في الكلام عن الصحابة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.