وردت بعض الآثار بأسانيد ضعيفة يعضد بعضها بعضاً في النهي عن التفكر في ذات الله، منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تتفكروا في الله، ولكن تفكروا في خلق الله، فإن الله لا تصل إليه فكرة) والنهي هنا للتحريم، أما المعاني فلا بد أن نتفكر فيها، ولا يجوز التفكر في كيفية صفات الله جل وعلا، ودليل ذلك ما ورد عن أم سلمة بسند صحيح رضي الله عنها وأرضاها -بسند صحيح- لما سئلت عن الاستواء قالت: الاستواء في اللغة معلوم - أي: تتفكر في معناه- والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وقال ذلك ربيعة الرأي ومالك رحمهم الله.
فقوله:(لا تتفكروا) أي: لا تتفكروا في كيفية صفات الله جل وعلا، وأنى للعبد أن يتفكر فيمن الكون كله في يده كحبه خردل في يد أحدكم؟ وكيف يتفكر في الذي خلق السموات السبع والأرضين السبع، والذي بصره ينفذ إلى جميع خلقه؟ فلا تواري عنه سماء سماء، ولا أرض أرضاً، ولا جبل ما في وعره، ولا بحر ما في قعره، فبصره سبحانه ينفذ إلى جميع خلقه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه:(حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه - أي: أنوار وجه الله جل وعلا - ما انتهى إليه بصره من خلقه) وبصر الله ينتهي إلى جميع خلقه، فيرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، فكيف يتفكر العبد في عين الله جل وعلا، أو في بصر الله جل وعلا؟ وكيف يتفكر العبد في ذات الله، أو في كيفية صفات الله جل وعلا، والسماوات كلها بما فيها وبما حوت مطويات بيمينه، والأرض جميعاً قبضته؟ ووالله ما قدروا الله حق قدره، كما قال تعالى:{مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا}[نوح:١٣]، فالتفكر في كيفية صفات الله جل وعلا ليس تعظيماً لله، قال تعالى:{مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا}[نوح:١٣ - ١٤]{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطًا * لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا}[نوح:١٩ - ٢٠].
وقال تعالى:{أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا * وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتًا * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا}[نوح:١٥ - ١٨]، فلا تتفكروا في هذا الخالق العظيم! بل تفكروا في خلقه، فإن عجزتم عن وصف خلق من مخلوقات الله فأنتم عن وصف الله أعجز وأعجز، ففكروا في ديك مثلاً، كما ورد في أثر صححه بعض العلماء وضعفه آخرون، وهو مما يستأنس به، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(تفكروا في بعض مخلوقات الله، خلق الله ديكاً رجله في الأرض ورأسه في السماء، ينظر إلى العرش، فكلما نظر قال: سبحانك ما عُبدت حق عبادتك، وفي رواية: قال: والذين يحلفون بك كذباً لا يعرفون عظمتك) فهل يستطيع أحد أن يتفكر في هذا المخلوق في طوله في عرضه في رأسه؟ وأشد من ذلك عظمة في الخلق ما رواه أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(أذن لي أن أحدث عن ملك - من حملة العرش- ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام) فهل يستطيع أحد أن يصف شحمة الأذن، أو يصف المكان الممتد بين شحمة الأذن إلى العاتق؟ فإن كان الإنسان عاجزاً في أن يتفكر في هذا المخلوق، فهو أعجز من أن يتفكر في صفات الخالق العظيم، وقد بين الله تعالى أنه جعل من الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع، ولا يستطيع أحد أن يصف لنا الملائكة الذين هم جسمين من الأجنحة.
وهل الأجنحة بدلاً عن اليد، الراجح الصحيح أن للملائكة أيدي، والأجنحة زيادة، ودليل ذلك من كتاب الله جل وعلا حيث قال:{والْمَلاَئكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ}[الأنعام:٩٣]، فالملك له أيدي ولا نعرف عددها، وهذا هو الذي فعله على بن المديني إذ جاء لغلام من السلاطين فقال له: أنت تتكلم في صفات الله جل وعلا، فأسألك سؤالاً واحداً: تصف لي مخلوقاً من مخلوقات الله، فإن عجزت عن وصف هذا المخلوق فأنت عن وصف صفات الله جل وعلا أعجز، فقال: تكلم، قال: قال الله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى}[النجم:١٣ - ١٥]، قال: رأى محمد صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته أو على هيئته له ستمائة جناح صف لي جبريل عليه السلام؟ فأسقط في يد الغلام ولم يعرف كيف يتكلم، ثم قال: أنحي عنك هذا وأقول: صف لي ثلاثة من هذه الأجنحة؟ ثم قال: أنحي عنك هذا، صف لي هذا الجناح الثالث، أين يكون؟ وكيف يكون؟ فأسقط في يد الغلام ورجع فقال: والله إني لأعجز عن وصف هذا الجناح الثالث، إذاً: فإني عن وصف ربي جل وعلا أعجز وأعجز.
فعلى الإنسان أن لا يتفكر في الله جل وعلا، ولا في كيفية صفاته، الله جل وعلا، ولكن في خلقه سبحانه، فهو لا يستطيع أن يصف مخلوقات الله فضلاً عن أن يصف صفات الله جل وعلا أو يكيفها.