للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[وقعة الجمل]

لما استتب له الأمر بعث عبد الله بن عباس وغيره إلى الأمصار التي كانت تحت يده ليكونوا أمراء عليها، ثم ظهرت فتن في هذا العصر الذي هو خلافة على منهاج النبوة، وهي فتن ثلاث، هذه الفتن سنتكلم عنها بإيجاز، ونحقق المسائل فيها ونبين أين الحق من الباطل.

فأما الفتنة الأولى فهي فتنة الجمل، والفتنة الثانية: فتنة صفين، والفتنة الثالثة: فتنة النهروان، وهذه هي أشد الفتن التي حدثت في عصر علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه.

وقبل أن نتكلم عن هذه الفتن فقد أخذ على علي بعض الأمور في خلافته، وهي: أولاً: أخذ عليه أنه لم يولِّ طلحة والزبير أي إمارات.

ثانياً: أنه تولى الخلافة في هذا الزمن العصيب بعد مقتل عثمان والفتن قد نزلت تطغى على الناس.

ثالثاً: أخذ عليه أنه عزا معاوية ولم يداره ويجعله تحت أمرته حتى يبايعه، ثم بعد ذلك يفعل ما شاء.

رابعاً: أخذ عليه أيضاً رضي الله عنه وأرضاه أنه حبس الصحابة في المدينة كـ أبي موسى وغيره.

وهذه المآخذ التي أخذت على علي كان الحق فيها مع علي، فأما مسألة طلحة والزبير فقد نظر إلى طلحة والزبير فرآهما قرينين له، وكانا من أهل الشورى ويتطلعان إلى الخلافة، ولو أمر كل واحد منهما على مصر من الأمصار لالتف الناس حوله، وثارت الفتن مرة ثانية، وقد كان ما توقعه، فلما خرجا واستأذنا علي بن أبي طالب للعمرة قال: هذه ليست عمرة ولكنها غدرة، ولما خرجا حدث ما حدث كما سنبين.

وأما الأمر الثاني وهو قبوله للخلافة في وقت الفتن، فقد كان الحق معه أيضاً، ومن أحق من علي بالخلافة، قال يوسف عليه السلام، {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:٥٥]، ولو تمناها وطلبها علي فهو أحق بها، ولا أحد أحق بها من علي رضي الله عنه وأرضاه.

ولو ترك الناس يتخبطون لضاعت الأمة، فلا بد من أمير يضبط أمور الخلافة، فكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه أهل لها.

وأما مسألة عدم تولية معاوية فـ علي لا يناقض نفسه، فكثيراً ما قام إلى عثمان يشاوره وينصحه أن يعزل معاوية رضي الله عنه وأرضاه، فلما تولى هو الخلافة قال: أنا أتكلم مع الرجل في عزله وأبقيه على نفس المكانة! فعزله وكان الحق معه، وحتى وإن لم يكن الحق معه فحكمة الله اقتضت أن تنزل الفتن في هذا العصر.

وأما فتنة الجمل فبعدما استأذن طلحة والزبير رضي الله عنهما وأرضاهما إلى مكة للعمرة، قامت عائشة وقالت: نطلب بدم عثمان، فالتقوا بـ مروان بن الحكم الذي كان سبباً في قتل عثمان؛ لأن علي بن أبي طالب لما تعمم بعمامة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج متقلداً بسيفه حفاظاً على عثمان رده عثمان، وكان قد أرسل الحسن والحسين لنصرته، وقيل له: لو قدم لهم مروان ما قتل، وكان ذلك اجتهاداً من عثمان أنه يبقى صابراً محتسباً، فالتقوا به في مكة، فخرجوا طلباً للثأر من قتلة عثمان، وقتلة عثمان قد انتشروا في جيش علي بن أبي طالب وهو لا يعرفهم.

فخرجوا إلى البصرة فوقفوا عند مكان يسمى الحوأب، فنبحت الكلاب، فقالت عائشة: هل هذا الحوأب؟ فقيل: نعم، فقالت: ردوني؛ فقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أيتكن تنبح عليها كلاب الحوأب؟).

وهذا الحديث ضعفه بعض العلماء وصححه بعض العلماء، لكن يستأنس به أن عائشة كأنها وجدت نفسها ليست صائبة في الخروج في طلب دم عثمان، وقد دلس عليها الثوار على أنها ليست في الحوأب، فذهبت مع طلحة، فبعث إليهم علي بن أبي طالب بـ القعقاع بن عمرو رضي الله عنه وأرضاه، فذهب فقال: يا أمي! ما الذي أتى بك؟ قالت: أتيت للإصلاح بين الناس، فقال لـ طلحة: ما الذي أتى بك؟ فقال نفس مقالة عائشة، وقال ذلك للزبير، فقال مثل ما قالت عائشة، فقال القعقاع: آلإصلاح يأتي بالقتل؟! وكانوا في الطريق قد مروا ببعض قتلة عثمان فقتلوهم، فتألبت القبائل نصرة لهؤلاء الذين قتلوا، وذكر لهم القعقاع أنهم قد أفسدوا أكثر من المصلحة التي ترجى، فاقتنعوا بكلامه، فبعثوا إلى علي أن الأمر على الصلح ويرجعون من حيث أتوا، لكن الثوار أبوا ذلك، وحكمة الله اقتضت أن تثار الفتنة، فذهب ألف من الثوار فأعملوا القتل في جيش طلحة والزبير، ثم التقى الصفان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

فقام علي بن أبي طالب صاحب المروءة والشجاعة فقال: ألا يخرج طلحة؟ ألا يخرج الزبير؟ فخرج له طلحة، فقال له علي بن أبي طالب مبكتاً: يا طلحة أحبست زوجك في بيتك وخرجت بزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم تقاتل بها؟! فاستحيا طلحة، ثم قال له: أما سمعت رسول الله يقول: (اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله)، فأغمد سيفه واستدار، ثم قال: أين الزبير؟ فخرج الزبير، فقال: يا زبير! أما تذكر أني مررتُ عليك فنضرت إلي فضحكت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتحبه، فقلت: نعم، فقال لك رسول الله: تقاتله وأنت له ظالم؟) أتذكر؟ فقال الزبير: والله ما تذكرته إلا الساعة، فأغمد سيفه واستدار، فكلمه ابنه، فقال: لا رجعة، فرحل الزبير، لكن أبى الله جل وعلا إلا أن يقتتل الفريقان لحكمة سنبينها.

فاقتتلا وقتل الزبير وقتل طلحة، وقاتل الزبير دخل بسيف الزبير على علي، فنظر علي مندشهاً وقال: أسيف الزبير هذا؟ قال: نعم، وقد سلبته منه، فقال له: أبشر بالنار، من قتل ابن صفية فهو في النار، اذهب.

وقال: دلوني على طلحة، فوجده طريح الأرض، فنحى التراب عن وجهه وقال: يعز عليَّ أن أراك في هذا الموقف، ثم بكى علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه.

وذهب إلى أصحابه فوجد المقتلة عضيمة عند الجمل، فالتف الجنود حول جمل عائشة رضي الله عنها وأرضاها، فقال عمار بعدما سبها رجل منهم: مه - يعني: اسكت - والله! إنها لزوجة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، وإن الله ابتلاكم بها أتسمعون لها أم تتبعون أمر الله جل وعلا.

ثم أمر علي بأن يعقروا هذا الجمل فعقروه، ثم أخذوا عائشة في الهودج ومكن لها مكاناً طيباً مريحاً، ثم أكرمها أيما إكرام، ثم أحسن لها الكلام، ثم رجع بها إلى المدينة، وأخمدت الفتنة، ومات طلحة ومات الزبير، ورجع علي إلى الكوفة.