للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حكم قول: لفظي بالقرآن مخلوق]

مسألة من قال: لفظي بالقرآن مخلوق، هل هو مثل من قال: إن القرآن مخلوق أم لا؟ هذه مسألة عويصة ومعرفتها مهمة جداً، والناس فيها على ثلاث طوائف: الطائفة الأولى: الواقفة، وهذه فرقة من فرق الجهمية، فمثلهم مثل من يقول: إن القرآن مخلوق؛ ولذلك توقفوا في أمر اللفظي، فالواقفة جهمية أصلاً.

الطائفة الثانية: قالوا: لفظي بالقرآن غير مخلوق، وهم غلاة الصوفية، كـ ابن عربي وابن سبعين، فهم يقولون: كل كلام في الأرض كلام الله؛ لأن عندهم الحلول والاتحاد، فلا فرق بين الخالق والمخلوق، فالمخلوق هو الخالق، والخالق هو المخلوق، ولذلك قال ابن عربي: كل كلام في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه يعني: أي كلام فيه سب، وأي كلام تزدري الأذن أن تسمعه، يقول: هذا كلام الله، حاشا لله! لأن عنده أن المخلوق خالق، والخالق مخلوق، ولا يدري ما الفرق بينهما، حاشا لله! وهذه الطائفة أكفر أهل الأرض، عليهم من الله ما يستحقون.

الطائفة الثالثة: طائفة أهل السنة والجماعة القائلون: لفظي بالقرآن مخلوق، وقد حصل كلام ونزاع بينهم في المراد بهذه المقولة، فالإمام أحمد والشافعي وابن عيينة وغيرهم من الأئمة قالوا: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق فهو زنديق، وقالوا: لا تصح هذه المقولة؛ لأن قولي: لفظي بالقرآن مخلوق، هي كقولي: القرآن مخلوق.

وخالف في ذلك البخاري وابن خزيمة وابن جرير الطبري فقالوا: هذه المقولة لا شيء فيها، وهي كلام صحيح.

ونحن نقول بالتفصيل، فهل تكلم الصحابة والتابعون بهذا الكلام؟ لا، وإنما هذه المقولة بدعة ظهرت في القرون المتأخرة، وهناك قاعدة تقول: كل كلام في حق الله فهو مجمل لا يقبل بالإطلاق، ولا يرد على الإطلاق، كالجهة والمكان، ولكن نقول للقائل: ما تقصد؟ فإن كان يقصد حقاً قبلنا الكلام، وإن لم يقصد حقاً رددنا الكلام.

فلو أنه قصد أن لفظه بالقرآن الذي يتلوه مخلوق يعني بسم الله الرحمن الرحيم {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:١ - ٢] فهو قد قال بقول المبتدعة الذين قالوا: إن القرآن مخلوق، ونرد عليه القول، ونزيل عنه الشبهة؛ فإن أصر على ذلك فقد كفر؛ لأن هذا القول قول كفر.

وإن قصد فعله وكتابته ولسانه وصوته الذي يطلع منه، فهذا حق، فإن فعله مخلوق، وتلاوته مخلوقة، ولسانه مخلوق، وقلبه مخلوق، وصدره مخلوق، والله جل وعلا والنبي صلى الله عليه وسلم قد سميا التلاوة فعلاً، والله سيجازي الإنسان على فعله، وفعل الإنسان مخلوق، ولذلك في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وأطراف النهار) والفعل من كسب العبد، وهو مخلوق.

وعندنا أدلة تثبت أن التسطير للقرآن مخلوق، والقلم مخلوق، والآلات التي أقرأ بها مخلوقة، قال الله تعالى: {وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} [الطور:١ - ٣] فكل هذه مخلوقات غير الكتاب، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أول ما خلق الله القلم، قال له: اكتب؛ فكتب) فكان من ضمن ما كتب: القرآن، فالقلم مخلوق، والقرآن مسطر، وهذا التسطير مخلوق، والورق مخلوق.

أيضاً: كلام الله جل وعلا في الصدور وفي القلوب، والصدور مخلوقة، قال الله تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:٤٩]، وقال الله جل وعلا: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ} [الشعراء:١٩٢ - ١٩٤]، فالقرآن في قلب النبي صلى الله عليه وسلم، وقلب النبي صلى الله عليه وسلم مخلوق.

كذلك: تلاوة العبد من فعل العبد، وهي مخلوقة، قال الله تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} [العنكبوت:٤٥]، وقوله: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة:١٦]، وقوله: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة:١٨]، وقوله: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} [الإسراء:١٠٦]، وقوله تعالى: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ} [البقرة:١٢١] فهذه التلاوة مخلوقة؛ لأنها من كسب وفعل العبد.

أيضاً: هذا القرآن يسمع بالآذان، والآذان لا شك أنها مخلوقة، قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:٦] فيسمع كلام الله بالآذان المخلوقة، وهذه الآلات كلها مخلوقة، فإذا قلت: اللسان الذي تكلم بكلام الله مخلوق.

فلا شيء عليك، وإذا قلت: القلب الذي حفظ كلام الله مخلوق.

فلا شيء عليك، وإذا قلت: الصدر الذي وعى كلام الله جل وعلا مخلوق.

فلا شيء عليك، وإذا قلت: القلم الذي كتب بسم الله الرحمن الرحيم {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:١ - ٢] مخلوق.

فلا شيء عليك.

وبعد معرفتنا فصل الخطاب في حكم قولنا: لفظي بالقرآن مخلوق، نعلم أن الإنكار الشديد على الإمام البخاري ليس تحته طائل؛ لأن الإمام البخاري قال: إن التلاوة من فعل العبد، وفعل العبد مخلوق.

لكنه لم يقل: إن القرآن مخلوق.

وأما الجواب عن أئمة الهدى: الإمام الشافعي وابن عيينة والإمام أحمد واسحاق بن راهويه الذين قالوا: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق فهو زنديق.

أنهم أرادوا بذلك سد الذريعة وحسم المادة؛ لأن غليان الفتنة كانت في تلك العصور كثيرة جداً، فما من بيت إلا ودخلته الفتنة، فأرادوا حسم المادة وسد الذريعة؛ لأن هذه المقولة مجملة، فقالوا: نحسم المادة ونسد الذريعة، ولا نقول: لفظي بالقرآن مخلوق؛ حتى لا يتوهم أحد أنك تقول: إن القرآن مخلوق.