للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[دلالة الكتاب والسنة على خلق الله لأفعال العباد]

إن مما يثبت أن الله خلق أفعال العباد أدلة من الكتاب والسنة، فقد قال الله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:٩٦].

أي: كل فعل فعلتموه فإن الله هو الذي خلقه بنص هذه الآية.

وقد ذكر البخاري في خلق أفعال العباد قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يصنع كل صانع وصنعته)، وفي رواية: (خلق الله كل صانع وصنعته).

فالصنعة هذه هي نتيجة لفعل الله، فإنه قد خلق كل صانع وصنعته.

وعن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل شيء بقدر حتى العجز والكيس).

فقوله: (كل شيء) لفظ عام.

قال الإمام البخاري: خلق الله أفعال العباد، الحركات والسكنات، واليقظة والنوم، والأصوات وغيرها، فكل ذلك خلقه الله جل وعلا.

وعن ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه قال: خلق الله أفعال العباد، حتى وضعك يدك على خدك خلقها الله جل وعلا.

وقد كان علي بن أبي طالب ينكت بعصاه ويقول: هذه النكتة أو هذه الضربة في الأرض خلقها الله جل وعلا.

وكذلك ابتساماتك في كل لحظة من اللحظات من الله جل وعلا، فقد قال الله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم:٤٣].

والضحك فعل من أفعال العبد، والبكاء فعل من أفعال العبد، والله جل وعلا هو الذي هو أضحكك وهو الذي أبكاك.

والنبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (الأمر قد قضي، قالوا: على ما نستقبل أم على ما مضى؟ فقال: على ما مضى، فقالوا: يا رسول الله! ففيم العمل؟ قال: كل ميسر لما خلق له).

ووجه الشاهد هو قوله: (كل ميسر)، يعني: إذا قدر الله لك باب الهداية خلق فيك العزيمة والإرادة للهداية، ثم خلق فيك فعل الهداية ووفقك له.

فالله جل وعلا خلق كل فعل فعله العبد.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [جاء في الحديث عن حذيفة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (المعروف كله صدقة، وإن الله صانع كل صانع وصنعته)].

وقد اختلف العلماء في قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:٩٦].

فقالت القدرية: هذه الآية ليست دليلاً على أن الله خلق أفعال العباد؛ لأن (ما) هنا موصولة بمعنى الذي، فالمعنى: والله خلقكم والذي تعملون، والذي كان يعمله قوم إبراهيم هو جعل الأخشاب أصناماً فقال لهم إبراهيم: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:٩٦]، أي: والذي تعملونه من هذه الأخشاب، فإن الله خلقها وخلقكم، قالوا: وهذا ليس له علاقة بأفعال العباد.

والرد عليهم هو أن قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:٩٦] معناه: إن هذه الأخشاب التي أصبحت أصناماً تعبدونها خلقها الله، وإذا كان الله قد خلقها وهي نتيجة المقدمة وهي عملكم، فيلزم من هذا أن يكون الله قد خلق المقدمة التي هي: العمل.

فيرد عليهم من طريق اللزوم، فالأصنام هي النتيجة التي وصلتم إليها بعملكم، وهذه النتيجة التي وصلتم إليها الله خلقها، فمن باب أولى أن يكون الله هو الذي خلق العمل أو المقدمة التي أوصلكم بها إلى النتيجة.

وأيضاً إذا فسرنا (ما) بأنها مصدرية فسيصبح معناها: والله خلقكم وعملكم، وليس في هذا أي نزاع، وقد جاء في الآية الأخرى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:٤٩].

ووجه الشاهد من هذه الآية قوله: إن (كل) لفظ من ألفاظ العموم، ويدخل تحته كل شيء في السموات أو في الأرض، كبني آدم وأفعالهم، وبهذا دخلت أفعال العباد تحت ما خلقه الله تعالى بقدر.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: (جاء مشركو قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر، فأنزلت هذه الآية: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ * يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:٤٧ - ٤٩]).

وعليه فإن الله قد خلق مسبة أبي جهل للنبي صلى الله عليه وسلم واتهامه بالسفه والكذب، وإن كان تعالى لا يرضى لنبيه أن يسب ويسفه ويكذب، وهذا يبين الفرق بين القضاء الكوني والقضاء الشرعي.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [تفسير قوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [:٨]].

ووجه الاستدلال: أن الإلهام من الخلق، والشيخ الشعراوي رحمه الله ذكر أن المعنى: أعلمها بالفجور وبالتقوى، وكان يقول: علم الله أهل الجنة فكتبهم، وعلم أهل النار فكتبهم، وكان يضرب مثلاً على ذلك فقال: إذا نظر المدرس لخمسة من تلامذته، ورأى أن التلميذ الجيد جداً سيحصل على تسعين في المائة فكتب ذلك عنده، ورأى أن المهمل سيحصل على ثلاثين في المائة، وكتب ذلك، فإذا جاءت نهاية العام وحصل ما كتبه المدرس وأخبر به، فلا يُلام المدرس على ذلك؛ لأنه عمل على ما يعلمه، وبهذا يتبين معنى القدر، فلا يصح الاحتجاج بالقدر على فعل المخالفات.

فلو قلنا تنزلاً: إن معنى: (فَأَلْهَمَهَا) أي: أعلمها، فإن أم موسى عليه السلام أوحي إليها وحي إلهام، وهذا تفسير صحيح، ولكن الشعراوي له تأويلات أخرى.

والله جل وعلا أعلم البشر بقوله: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:١٠].

فأعلمهم الخير من الشر، والتقى من العصيان.

ووجه الدلالة في قوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:٨] على خلق أفعال العباد: هي أن الله ألهمه فعل الشر، أي: خلق فيه إرادة الزنا مثلاً، ولكنه لم يخلق فيه نفس الفعل، فلو أنه زنا بامرأة، فإن هذا الشر قد علمه، ثم كتبه، وعند

السؤال

هل خلق الله هذا الزنا أو لا؟ فلو قلنا: تأدباً مع الله لا ينسب الشر إليه جل وعلا -أي: خلق الزنا- ولكنه خلق أسبابه فقط، فيلزم من هذا أن الزنا مخلوق لله جل وعلا، فخلاصة الأمر أن نقول: إن الزنا إذا نسبنا خلقه إلى الله جل وعلا فذلك منه حكمة وكمال، وإذا نسبناه للعبد نسبناه على أنه من الفجور الذي سيحاسب عليه؛ لأنه فاعل لذلك الفعل.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [تفسير قوله تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:١٠]].

يعني: أن الله جل وعلا هداه الطريقين: طريق الخير وطريق الشر.