للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مراتب الهداية]

الهداية نقيض الغواية، والهداية لها أربع مراتب: الأولى: الهداية عامة، وهذه الهداية العامة تعم كل الخلائق من جن وإنس وحيوانات، فقد هدى الله جل وعلا آدم كيف يأتي زوجته، وأوحى إلى النحل كيف تتخذ من الجبال بيوتاً، قال تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا} [النحل:٦٨]، وهدى النمل: {يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ} [النمل:١٨]، من الذي أوحى إليها بذلك وهداها إلى ذلك؟ إنه الله جل وعلا.

المرتبة الثانية من الهداية: هداية عامة للثقلين: الجن والإنس، وهي هداية البيان والإرشاد، وهي التي قال الله فيها للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:٥٢] أي: تبين وترشد الناس إلى هذا الصراط المستقيم.

وقال الله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} [فصلت:١٧] أي: بينّا لهم وأرشدناهم، {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت:١٧].

هذه المرتبة تكون لله على لسان رسله وعلى لسان ورثة الرسل رضوان الله عليهم كالصحابة والعلماء.

المرتبة الثالثة وهي خاصة بالله جل وعلا، وهي: هداية القلوب، هداية السداد، وهذه لا تكون إلا لله جل وعلا، فهداية القلوب بيد علام الغيوب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء)، وقال الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:٢٤]، ولذلك لما ذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمه فقال: (يا عم قل كلمة واحدة أحاج لك بها عند الله جل وعلا) فنزلت هذه الآية: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:٥٦].

أما الجمع بين الآيتين: قول الله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:٥٦] وقول الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:٥٢] فهو في الأولى نفى الهداية عنه، وفي الثانية أثبتها له، فنقول: الهداية المنفية عن النبي صلى الله عليه وسلم هداية السداد والتوفيق هداية القلوب، والهداية المثبتة هي هداية الدلالة والبيان والإرشاد.

المرتبة الرابعة: هذه ليست في الدنيا ولكنها هداية في الآخرة وهي: هداية أهل الجنة إلى منازلهم في الجنة، كما قيل: إن الرجل من أهل الجنة يعرف قصره الذي في الجنة أشد من معرفته لبيته الذي في الدنيا، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} [محمد:٤ - ٥] ثم بين هذه الهداية: {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد:٦]، فالمرء يدخل قصره ويعرفه أشد من معرفته لبيته الذي في الدنيا.

رزقنا الله وإياكم هذه القصور العالية في الجنة.