[إثبات دخول الجني في الإنسي وإلحاق الضرر به]
تبقى مسألة تتعلق بالجن وهي: طالما أن الجني يستمتع بالإنسي فهل يدخل فيه أم لا يدخل؟ الصحيح الراجح في ذلك أثراً ونظراً: أن الجني يدخل في الإنسي.
أما الدليل من الأثر: فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم).
إذاً: فالشيطان يدخل في الإنسان، وله خفة بحيث يمشي في العروق كالدماء، وأنت ما تدري عن عظم أو دقة خلقه، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)، فهذه الدلالة من الأثر أنه يدخل بني آدم.
أما واقعاً فقد ورد بالنص وبالاستنباط: أما بالنص: فإن الرسول صلى الله عليه وسلم مر على امرأة عندها غلام قد جن من المس، يعني: حدث له صرع من الجن، ويغيب هذا الجني عقله، فيذهب عقله مرة ويفيق مرة، فلما اشتكت هذه المرأة للنبي صلى الله عليه وسلم قال: (ائتيني بالغلام، فأتته بالغلام فأخذه وأداره فضرب على ظهره).
رواه الطبراني بسند صحيح، وفي هذا دلالة على أن الضرب لا يقع على الإنسي بل يقع على الجني، لكن لا يحصل هذا من كل إنسان، فبعض الناس -ممن ليس عنده علم فقه ولا علم بالقراءة ولا علم بكيفية علاج المصروع- أخذ يضرب امرأة ويسب الجني الذي بداخلها ويقول: اخرج عدو الله، اخرج يا ظالم، ويضرب المرأة على رأسها بالعصا حتى ماتت المرأة! فلما أحس هذا الرجل أنه سيعدم، قام بحلق نصف لحيته وترك النصف الآخر ومشى في الشارع أمام الناس من أجل أن يحسبوا أنه مجنون، فالمسألة تحتاج لعلم! فالمقصود: أن الضرب لا يقع للإنسان وإنما يقع على الجني، لكن للخبير التقي الذي يعرف كيف يعالج المصروع، فالنبي صلى الله عليه وسلم أخذ الغلام وضربه على ظهره وقال: (اخرج عدو الله إني رسول الله)، وفي رواية أخرى قال: (فتح فمه ثم قرأ فيه ونفث فيه وقال: اخرج عدو الله إني رسول الله)، هذا فعل رسول الله، فأين المتنطعون؟! وأين هؤلاء الذين جنوا في عقولهم فرفضوا حديث النبي صلى الله عليه وسلم؟! وأيضاً الإمام أحمد بن حنبل لما قالوا له: هناك مصروع، فقال: خذ نعلي واذهب به إليه وحرج عليه وقل: يأمرك الإمام أحمد أن تخرج، فخرج الجني، وقيل: بعدما مات أحمد رجع فيه مرة ثانية.
والمرأة السوداء التي كانت تصرع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ورآها ابن عباس تتعلق بأستار الكعبة فسألها عن ذلك، فقالت: أخشى من الخبيث أن يكشفني، وهي تعني بالخبيث: الجني الذي يصرعها، ثم ذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها رسول الله: (إن شئت دعوت الله لك فيشفيك، وإن شئت صبرت ولك الجنة فقالت: يا رسول الله! أصبر، ولكن ادع الله لي أن لا أتكشف)، فهي من فقهها فضلت الصبر كما أنها أرادت الستر.
فهذا الحديث دلالته ظاهرة على أنها كانت تصرع ويتلبسها الجني.
وأيضاً ابن صياد أكبر الدجاجلة، كان النبي صلى الله عليه وسلم يمر عليه ويحسبه المسيح الدجال؛ لأنه لا يعلم الغيب، ويختبئ له خلف شجرة، فيجده معلقاً بين شجرتين وله همهمة مثل همهمة الشياطين، فقالت له أمه: (هذا محمد فيأتيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: ماذا ترى؟ فيقول: أرى عرشاً على الماء، ويأتيني صادق وكاذب، فقال له النبي: خبأت لك خبيئة، قال: الدخ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اخسأ فلن تعدو قدرك).
وهذا هو محل الشاهد.
وقد رآه ابن عمر في سكة من سكك المدينة فنظر إليه ابن عمر فإذا بالرجل ينتفخ وينتفخ حتى سد الطريق الذي سار فيه ابن عمر، فذهب إليه ابن عمر فأوجعه بعصاه ضرباً، وذهب إلى حفصة وقال لها: أما رأيت ماذا فعل ابن صياد كذا وكذا وكذا، قالت له: وكيف تضربه؟ أما علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنه يخرج من غضبة يغضبها)؟ فهي حسبت أنه المسيح الدجال.
المهم: أن هذا الانتفاخ الذي وقع له هو من الجن.
فالجني يتعامل مع الإنسي ويصرعه، ولذلك كان ابن تيمية يقول: كنت أعالج امرأً فقلت للجني: اخرج، أنت ظالم، فقال: أنت شيخ الإسلام أخرج كرامة لك لتقاك وورعك.
وما قال ذلك إلا ليفتنه، ولذلك قلنا: إن المعالج لا بد أن يكون فقيهاً لا جاهلاً، إذ إنه يمكن أن ينصب له الجني شرك الكفر والشرك والاستعانة به.
لذلك قال له ابن تيمية الفقيه الحبر: اخرج عدو الله لا كرامة لي ولكن طاعة لله، فإنك ظالم.
يعني: اخرج لأن هذه مظلمة ستحاسب عليها يوم القيامة.