للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أنواع التكفير]

الكفر نوعان: كفر أكبر، وكفر أصغر، ونحن بصدد بيان الكفر الأكبر والكلام على أهل البدع.

والتكفير نوعان: تكفير النوع، وتكفير العين، فتكفير النوع بمعنى أن القول أو الفعل كفر، والقائل والفاعل ليس بكافر حتى تقام عليه الحجة وتزول عنه الشبه، وهذا التأصيل أتينا به من الآيات التي تكفر الذين يفعلون الكفر، فهي إنما جاءت للأعيان، ولم تأت للأنواع، قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:٧٣]، وقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:١٧]، وقال الله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:٦٥]، فكل هذه الآيات والأحاديث جاءت في الأعيان لا في الأنواع.

والسؤال هو: هل هناك دليل على التفريق بين كفر النوع وكفر العين مع أن الظاهر أن الأدلة كلها نزلت في تكفير الأعيان؟ الجواب هو أن دليل التفريق بين كفر النوع وكفر العين يستند على الوعيد، سواء الوعيد المطلق، أو الوعيد المقيد، فقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن في الخمر عشر -والملعون هو: المطرود من رحمة الله جل وعلا- شاربها، وحاملها، وعاصرها، ومعتصرها، وشاريها، وبائعها) فكل هؤلاء لعنوا في الخمر، وهذا وعيد مطلق، وهو يشابه كفر النوع.

وفي الصحيحين أن عياض بن حمار رضي الله عنه وأرضاه كان كثيراً ما يضحك النبي صلى الله عليه وسلم، وكثيراً ما يؤتى به ليحد من شرب الخمر، فجيء به مرة وهو مخمور، فلما جلدوه بالنعال أو بالجريد، قال قائل: لعنة الله عليه! ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تلعنه، والله إني لا أراه إلا يحب الله ورسوله)، ووجه الدلالة أن النبي لعن في الخمر عشرة: الشارب، والحامل، والبائع، والمشتري، والعاصر، والمعتصر، فكل هؤلاء لعنوا في الخمر لعناً مطلقاً أو لعن نوع، ومع ذلك فالذي شربها وجيء به يجلد لم يوقع عليه النبي صلى الله عليه وسلم عين اللعن، فهذا تفريق بين النوع وبين العين من نص حديث النبي صلى الله عليه وسلم.

وأيضاً فعل السلف يبين التفريق بين النوع والعين، فالإمام أحمد بن حنبل قال: من قال بخلق القرآن فقد كفر، والخليفة امتحنه في ذلك، بل جلده على ذلك، ومع ذلك سألوه: أنخرج عليه؟ قال: لا، والله! إن له عندي دعوة أدعو له كل يوم أو كل ليلة بالتسديد والتوفيق، وما كان يكفره، بل كان يصلي خلفه، مع أنه القائل: بأن من قال: القرآن مخلوق فهو كافر، واستفدنا من ذلك قاعدة مهمة وهي: من ثبت إيمانه بيقين، فلا يزول إلا بيقين، فهذا تفريق بين تكفير النوع وتكفير العين.

إذاً: فالكفر نوعان: كفر نوع، وكفر عين، تقول: القول قول كفر، والفعل فعل كفر، والقائل والفاعل ليس بكافر حتى تقام عليه الحجة وتزال عنه الشبهة، ولا بد أن تقام عليه الحجة بدليل قول الله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:١٥]، فإذا وجد رجل يطوف بالقبر فيكفر الفعل، أما هذا الطائف بالقبر فليس بكافر؛ لاحتمال أن يكون جاهلاً، أو نشأ في بيئة بعيدة لا يعلم شيئاً عن الدين بحال من الأحوال غير لا إله إلا الله محمد رسول الله.

رجل آخر وجد ساجداً أمام صنم، فيكون: السجود للصنم كفر، والساجد ليس بكافر؛ لاحتمال أن يكون يقرأ في القرآن وما رأى الصنم ثم مر على آية سجدة فسجد فصادف سجوده للصنم، فهذا الرجل يعذر أيضاً، ولا بد أن تقام عليه الحجة، والكفر يدرأ بأي عذر؛ ولذلك قال الإمام مالك: لو كان المرء على تسعة وتسعين كفراً وواحدة إيمان لحملته على الواحدة إحساناً للظن بالمسلم.