[لكل إنسان أجل محدد معلوم عند الله]
الموت هو أول منازل الآخرة: فما من أحد إلا وسيموت وسيقبض وسيأتيه أجله، قال الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:١٨٥]، وقال جل وعلا: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:٢٦ - ٢٧] فهذا تنصيص على أن الموت لا يفوت أحداً، وأن هذا الكأس كل منا سيشربه، وإذا كان كل واحد منا سيموت وسيقبض فله أجل مضروب ومعلوم، ومقدر ومكتوب في اللوح المحفوظ.
صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه سمع أم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنها تقول: اللهم! متعني بزوجي: رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومتعني بأبي: أبي سفيان، ومتعني بأخي: معاوية بن أبي سفيان، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: قد سألت الله جل وعلا آجالاً مضروبة وأرزاقاً مقسومة، وآثاراً موطوءة لا يتقدم منها شيء ولا يتأخر، ولو أنك سألت الله جل وعلا أن يعافيك من عذاب الآخرة وعذاب القبر لكان خيراً لك).
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ليبين أن لكل أجل كتاب، وأن كل إنسان لا بد أن يموت في وقته، قال الله تعالى: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} [الرعد:٣٨]، وقال: {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [يونس:٤٩]، فالأجل مضروب ومكتوب ومعلوم، والمرء لا يتقدم ولا يتأخر عما كتب من أجله كما في الحديث أن الملك يقول: (أي رب! ذكر أم أنثى؟ أي رب! كم عمره؟) فيكتب العمر، وصحائف الملائكة يمكن أن تتغير فيها هذه الثوابت، لكنها في اللوح المحفوظ قد كتبت، وعلم عمر المرء ومدة حياته، لكن الله جل وعلا بحكمته لم يبين للناس متى سيموتون، فما اطلع أحدنا على الغيب، ولا علم متى سيموت، والحكمة في ذلك: أن يجتهد المرء؛ ليصل إلى ربه وإلى طاعة ربه وإلى رضا ربه باجتهاد عالٍ، قال الله تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:٣٤]؛ لأنه إذا جهل أجله فإن الله جل وعلا مد له حتى يجتهد في عبادته.
قال ابن عيينة مترجماً لبعض رواة الحديث: هذا الراوي لو قيل له: ستموت غداً ما زاد في عبادته شيئاً؛ لأنه كان يجتهد اجتهاداً عالياً، حتى يصل إلى ربه جل وعلا وهو مجتهد في عبادته، طائع لربه متذلل متمسكن لله جل وعلا.
وكان عمر بن الخطاب ينصح الأمة، ينصح الصحابة الكرام، وينصح التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين بأن يجتهدوا في العبادة، فإنهم حتماً راجعون إلى الله جل وعلا، فقال: قد ارتحلت الدنيا مدبرة، وقد ارتحلت الآخرة مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فاليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل.
وكان يقول رضي الله عنه وأرضاه: إن الدنيا تطلعت مدبرة، وتطلعت الآخرة مقبلة، فعليكم بالجد والسعي.
وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقبض على لحيته ويقول: يا دنيا! غري غيري طلقتك ثلاثاً.
وكان بعضهم ينشد ويقول: إن لله عباداً فطنا طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا نظروا فيها فلما علموا أنها ليست لحي وطنا جعلوها لجة واتخذوا صالح الأعمال فيها سفنا والموت هو من أقوى دواعي استكمال إيمان العبد، إذ إن الله جل وعلا قد علق الفلاح والهدى بالإيمان بالغيب، فقال الله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:٤ - ٥]، فربط الفلاح والهدى بالإيمان بالغيب.
أول المباحث: بعدما يموت المرء، ويأتي الملكان فيسحبان روحه، فإن كان من المؤمنين جاء الملك بكفن وحنوط من الجنة، وطيب من الجنة، فأخرج روحه بسهولة، فتخرج فيرتقي بها الملك إلى السماء فتقول الملائكة: روح من هذه الطيبة؟ أو يمدحون هذه الروح ويسألون عنها، فيقال: فلان بن فلان بأحلى وأجمل أسمائه التي كان يحبها في الدنيا، ثم يصعد إلى السماء السابعة فيقال: (صدق عبدي فاكتبوا كتاب عبدي في عليين).
أما إن كانت الأخرى والعياذ بالله فيكون حنوط من النار وكفن من النار، فيأخذها الملك ويصعد بها إلى السماء بأنتن ريح فتقول الملائكة: ما هذه الريح النتنة؟ فيقال: فلان بن فلان بأبغض أسمائه، ثم يصعد إلى السماء السابعة فيقال: (قد كذب عبدي فاكتبوا كتاب عبدي في سجين) فبعد أن يموت المرء ويكفن ثم ينقل إلى القبر، وتبقى روحه فيبشر فإن كان من أهل الإيمان كأنه ينادي ويقول: قدموني قدموني، وإن كان من أهل الكفر والعصيان والعياذ بالله فيقال: (يا ويليها إلى أين تذهبون بها؟) فالأحاديث أثبتت أن كل الخلائق تسمع هذا، كل الخلائق من شجر وحجر وثمر وطير إلا الثقلين: الجن والإنس، وإلا لما كان للغيب فائدة، ولذلك نصح النبي صلى الله عليه وسلم أمته فقال: (أسرعوا بالجنازة) وبين العلة في ذلك: (إن كان خيراً قدمتموها إليه، وإن كان غير ذلك فشر تضعونه عن أكتافكم).