للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الرد على من ينكر نعيم القبر وعذابه]

خالف في عذاب القبر ونعيمه المعتزلة وكثير من الناس في هذه العصور الذين يقولون: إنك ترى النبي صلى الله عليه وسلم في وقتك الحاضر يقظة، ومن أهل الاعتزال الذين يقدمون العقل على النقل الذين قالوا: لا عذاب في القبر ولا نعيم، وعندنا من الأدلة من الأثر ومن النظر.

أما من الأثر: فيستدلون بقول الله تعالى: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى} [الدخان:٥٦] ويقولون: إن المقبور لا يعذب ولا ينعم؛ لأن الله جل وعلا قال: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى} [الدخان:٥٦].

ووجه الدلالة: أنهم يقولون: إن الآية فيها نص صريح: أنه لا يموت إلا موتة واحدة فإذا نزل قبراً فعادت روحه إلى جسده فسئل فبعدما سئل عذب أو نعم ثم مات مرة ثانية، فهذه موتتان، وهذا يعارض هذه الآية.

الأثر الثاني الذي استدلوا به على أنه لا عذاب ولا نعيم في القبر قول الله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر:٢٢]، وقال الله تعالى: {فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [الروم:٥٢] فقد ثبت بالدليل الصحيح أن الميت لا يسمع، فكيف نقول: إنه لا يسمع، ثم يجيب، فهو لا يسمع السؤال أصالة فلا يصح أن يجيب الإجابة.

هذا ما استدلوا به من الأثر، أما من النظر فقالوا: نحن نرى المصلوب أمامنا شهوراً ولا نرى عذاباً ولا نرى نعيماً ولا نرى عليه أثر من سؤال الملكين، ولا شيء مما تقولون، فهذه أدلة من الأثر ومن النظر ترد على من قال بأن في القبر عذاباً وأن في القبر نعيماً.

وقد أثبتنا بأن في القبر عذاباً وفي القبر نعيم، وإذا وافقتم على هذا واعتقدتم هذا وجب عليكم الرد على المخالف، والمخالفون اليوم كثر، والمعتزلة صورها كثيرة في هذه العصور، ويظهرون على شاشات التلفاز، فكثير من الناس ينكرون عذاب القبر وسؤال الملكين علناً أمام الناس، فكيف يكون الرد على هذه البدعة المميتة؟ فهم ينكرون حتى الدجال لكن الكلام هنا على أمر ثابت وراسخ في العقيدة وهم ينكرونه، فما من صاحب بدعة إلا وله دليل من الكتاب أو من السنة كما بينا ذلك كيف نرد عليهم؟ نحن الآن أثبتنا أنه ثمة عذاب وثمة نعيم في القبر؛ لأنه أول منازل الآخرة، وهم ردوا علينا وقالوا: لا عذاب ولا نعيم، والدليل على ذلك قول الله تعالى: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى} [الدخان:٥٦] فإن قلتم بعذاب أو نعيم في القبر ففيها حياة ثم موت ثم بعد ذلك حياة ثم موت، وبذلك تكون موتتان والله نصَّ على موتة واحدة، {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ} [الدخان:٥٦].

والجواب على هذه الشبهة من وجهين: الوجه الأول: نقول لهم: نحن نوافقكم على هذه الآية وأن ما يحدث في القبر ليس بموت، بل هو نوم، والنوم يسمى موتاً مجازاً كما قال الله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر:٤٢] والحديث صريح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن المستبشر بالخير: (فيقول: رب! أقم الساعة، رب! أقم الساعة فيقال له: نم -لم يقل له مت- كنوم العروس) فهذه نومة وليست موتة وتسمى موتة مجازاً، فتبقى الآية على صريحها أنها ليست إلا موتة واحدة التي هي موتة الدنيا ونحن نوافق على ذلك.

ويبين لنا ذلك أيضاً حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عندما يستقيظ من نومه يقول: (الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا) فسماها موتة مع أنها نومة، فأصبح النوم هنا بمعنى الموت مجازاً، فالذي يحدث في القبر ليس بموت، ونحن نوافق على هذه الآية، {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى} [الدخان:٥٦] التي هي موتة الدنيا، وهذه ليست بموتة ولكنها نوم.

الوجه الثاني: أن الاستثناء في هذه الآية استثناء منقطع {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى} [الدخان:٥٦] وهذا كلام عن أهل الجنة، فإذا دخلوا الجنة لا يموتون، ولا يكون لهم موت، وإلا فقد وردت الأدلة على أن أهل الكبائر إذا دخلوا النار صاروا حمماً فماتوا، فتكون الآية خاصة بمن دخل الجنة وأنه يتنعم ويتلذذ فلا يموت بعد ذلك، فإذا دخل الجنة فلا موت له، بل يعيش في نعيم وخلود أبدي، فإنه يذبح الموت على عرصات يوم القيامة، ثم يقال: (يا أهل النار! خلود بلا موت، يا أهل الجنة! خلود بلا موت) هذا الوجه الثاني في الرد عليهم.

أما الدليل الثاني الذي استدلوا به علينا وقالوا لا عذاب ولا نعيم في القبر فهو قول الله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر:٢٢]، وقول الله تعالى: {فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [الروم:٥٢] فكيف يجيب وهو لا يسمع؟ وقالوا: أنتم زعمتم أنه يأتيه ملكان فيقعدانه ويسألانه وهو لا يسمع فكيف سيجيب؟ فنرد عليهم ونقول: قال الله تعالى: {فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [الروم:٥٢] فإذا كان الرسول لا يُسمِعُ الموتى، فإن المَلَك سيُسمعه، فنفي السماع عن النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر:٢٢] نفى الله جل وعلا قدرة النبي صلى الله عليه وسلم على إسماع الميت، ولكن الله قادر على أن يجعل الملك يسمع هذا المقبور.

الأمر الثاني: السماع سماعان: سماع إجابة وسماع على الإطلاق بالآلة، فسماع الإجابة: أن يسمع فيجيب، وهذه منفية عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم يسمعون ولا يجيبون، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في أهل قليب بدر: (هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ فقال عمر: يا رسول الله! تكلم الأموات؟) يعني: كيف يسمعونك؟ فقال: (ما أنتم بأسمع منهم الآن) يعني: إنهم يسمعونني أشد مما تسمعون أنتم، لكنهم لا يجيبون وليس لهم القدرة على الإجابة، فإذاً: النفي هنا نفي سماع الإجابة ولا إشكال فيه.

السماع الثاني: إذا قلنا: نفي السماع الكلي المطلق فهو نفي عن قدرة النبي أن يسمعهم ولا تستلزم نفي أن الملائكة يعطيهم الله قدرة فيُسمعوا الميت المقبور فيسألانه حتى يجيب، وهذا الرد على الدليل الثاني من الأثر.

أما دليلهم الثالث والذي هو من النظر: فقالوا: وجدنا المصلوب أمامنا ميتاً وهو لا يسأل ولا يضرب ولا يعذب ولا ينعم، تأتي إلى من يصلب أمامك فهل ترى فيه تغييراً؟ وهل ترى فيه عذاباً؟ وهل ينزل إلى سابع أرض؟ وهل تأتيه الحيات فتعذبه؟ لا ترى ذلك، والذين قتلتهم الكلاب والسباع والحيتان أين عذابهم؟ وكيف سؤالهم؟ حتى قال بعضهم من المتأخرين: وضعنا السماعات في القبر فما سمعنا أسئلة، وما سمعنا أجوبة، وما سمعنا عذاباً، فكيف تقنعوننا بهذا العذاب؟! فهذا هو نظرهم فكيف نرد عليهم؟ سأؤصل لكم أصلاً مهماً جداً لطالب العلم وهو أن الدور ثلاثة كل دار لها حكم يختص بها وهي: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار الآخرة، فدار الدنيا لها أحكام، وأحكامها تقع على البدن والروح تكون تابعة، كالسارق الذي تقطع يده، فهذه على البدن وهو يتألم معنوياً، فالروح تابعة.

ودار البرزخ تقع أحكامها على الروح والجسد يكون تابعاً، ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تعلق من شجر الجنة).

الدار الثالثة التي لها حكم خاص هي: دار الآخرة، ودار الآخرة تجمع الشمل، فدار الآخرة تقع أحكامها على البدن وعلى الروح خلافاً للنصارى الذين يعتقدون أن المتعة في الآخرة لا تكون إلا معنوية، وأن العذاب لا يكون إلا معنوياً، وهذه عقيدة الشيخ أحمد ديدات غفر الله له ذلك، فهو يعتقد هذه العقيدة، ولذلك ننصح من يناظر النصارى أو يحاول أن يدعو الكفار أن يكون متقناً لشريعته أولاً ثم يتطلع بعد ذلك لأصحاب الأديان الأخرى، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: من تعمق في دينه فليناظر أهل الأديان الأخر، فهو يعتقد هذه العقيدة: أن النعيم الأخروي نعيم معنوي، وأن العذاب الأخروي عذاب معنوي، والصحيح الراجح: أن النعيم والعذاب يقع على البدن ويقع على الروح.

هذا التأصيل مهم جداً يصاحبنا في الرد عليهم، فنقول: إن هناك اختلافاً في الحياتين، فلا يقاس أمر الدنيا على أمر البرزخ؛ لأن هذه حياة لها أحكام خاصة بها، وهذه حياة لها أحكام خاصة ومثال ذلك: إذا دخلت على رجلين نائمين: الأول: يرى رؤيا أنه في جهنم يأخذ من صديدها، ويشرب من حميمها - والعياذ بالله- ويعذب في نار جهنم وتراه يتحرك كأنه يتعذب في نار جهنم، والآخر: يرى أنه في رياض الجنة يسرح، ويعانق حور العين، ويتمتع بالثمار والأنهار، ويشرب من اللبن ومن الخمر، وأنت واقف بينهما لا تعرف ماذا يحدث لهذا وماذا يحدث لهذا؟ وكذلك عندما تقف أمام المصلوب فهو يعذب وينعم وأنت لا تدري.

وكذلك في الدنيا -من باب قياس الأولى- فعند خروج الروح يأتي الملك فيضربه، يقول الله تعالى: {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [الأنفال:٥٠] وأنت لا ترى ذلك، وقوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الواقعة:٨٥ - ٨٧] هذا في الدنيا وليس في البرزخ فقبل أن يموت تأتي الملائكة إلى الميت لتسحب روحه وأنت لا ترى ذلك، أما الفاسق أو الكافر فيضرب على وجهه وعلى ظهره قال تعالى: {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الأنفال:٥٠]، وأنت لا ترى ولا تسمع ذلك، فهذا من ناحية النظر والقياس، وهذا قياس مع الفارق، ولا بد في القياس أن يكونا متماثلين، والأصل والفرع هنا غير متماثلين.