[حرمة دم المسلم عند الله]
أول ما يقتص به بين العباد: الدماء كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أول ما يقضي الله فيه بين العباد الدماء) وكيف لا؟! والله جل وعلا بين عظم وخطر الدماء، وبين عظم وشرف وقدر المسلم عنده جل وعلا، وهذه الدماء التي تسال ليلاً ونهاراً، مشرقاً ومغرباً، وليس هنا من يتحرك لهذه الدماء، ولا يعرف عظم هذه الدماء إلا الله جل وعلا؛ لأنها عند الله شريفة عظيمة، ولئن تزول السماوات والأرض أهون عند الله من أن تسال هذه الدماء؛ لأن هذه الدماء المسلمة عند الله عزيزة شريفة، كيف لا وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لو اجتمع أهل السماوات والأرض على قتل امرئ مسلم لأكبهم الله في النار ولا يبالي) فدم المسلم عند الله جل وعلا غالٍ.
وذات مرة دخل ابن عمر على الكعبة فطاف بها فقال: أنت الكعبة عظمك الله وشرفك، وإن حرمة دم المسلم عند الله أعظم منك، وأشرف منك، وكيف لا يكون دم المسلم عند الله جل وعلا أعظم من الدنيا وما فيها وزوال الدنيا وما فيها أهون عند الله من أن يسال دم المرء المسلم؟ وقد نصب الله الحرب على من عادى المسلم، فكيف بمن أسال دمه؟! وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قال الله تعالى: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) يعني: أعلمته بالحرب، ولم أر أدلة تبين أن الله نصب الحرب إلا على صنفين اثنين: الصنف الأول: الذي يعادي أولياء الله جل وعلا، لا ليقتلهم بل يعاديهم فقط، لا ليحبسهم لا لينكل بهم لا لينتقم منهم بل ليعاديهم بقلبه فقط، فإن الله نصب الحرب عليه.
والصنف الثاني الذي نصب الله الحرب بينه وبينه: آكل الربا نعوذ بالله من ذلك، فالذين يأكلون الربا نصب الله الحرب بينه وبينهم، قال الله تعالى لآكلي الربا إن لم يتوبوا: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:٢٧٩].
فنصب الله الحرب لمن يعادي الدم المسلم فكيف بمن يسيل دمه؟! فمن ساعد على قتل مسلم، أو أرشد إلى قتله، أو أباح، أو سهل، أو يسر، أو رضي بقتل امرئ مسلم فعند الله الموعد، وعند الله تجتمع الخصوم، وأقسم برب السماوات والأرض أن الكفار لا يزنون أي زنة لدم العبد المسلم الذي يسبح الله ويذكره.
أولم يأتكم نبأ زكريا عليه والسلام لما اختبأ من اليهود حين قتلوا يحيى، وفر منهم إلى أقرب شجرة ففتحت الشجرة نفسها لزكريا، فقالت: اختبئ في، فاختبأ فيها كما روى ذلك ابن كثير في قصص الأنبياء، فاختبأ فيها فأغلقت الشجرة على زكريا ولم يبق منه إلا قطعة من الثوب، فجاء بنو إسرائيل -عليهم من الله ما يستحقون- يتتبعون زكريا ليقتلوه، فنشروا الشجرة وقسموه نصفين، لكن الله جعله لا يشعر بالألم إلا كوخزة الدبوس.
وامرأة بغي من بني إسرائيل قدم لها رأس نبي من أجل إرضائها، فما قتل يحيى إلا لأنه أفتى للملك اليهودي أنه لا يصح أن ترد امرأتك؛ لأنك طلقتها ثلاثاً فلا تنكحها حتى تنكح زوجاً غيرك، فاشتدت غيضاً على يحيى، فما زالت توعز له حتى قتل يحيى وقدم لها رأسه على طبق وهو نبي من الأنبياء، فهم يتتبعون الأنبياء فكيف نستغرب أن يتتبعون الأبرياء؟! وهذه الآثار عن بني إسرائيل رأس أمرنا فيها أن نقول: نحدث عن بني إسرائيل ولا حرج، لا نكذب ولا نصدق حتى تأتينا الأدلة، وفي بعضها: قال الله تعالى: لو شعر زكريا بالمنشار وهو يقسمه نصفين لأكبهم الله كلهم في النار انتصاراً لزكريا عليه السلام، فالمؤمن عند الله جل وعلا غالٍ وثمين، ودمه عند الله شريف، لا يهدر بحال من الأحوال.
ولذا فإن الله جل وعلا نصب القصاص يوم القيامة أول ما يكون في الدماء، ففي الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه قال: (يأتي المقتول يوم القيامة يحمل رأسه وأوداجه تشخب دماً فيقول: يا رب! سله فيم قتلني؟) فإن كان قتله بالحق فسيذكر ذلك، والله جل وعلا يصدق ذلك أو يكذب، وإن كان بالباطل فعند الله الموعد ولا بد أن يقتص منه.
قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه وهو يجلس معهم يبين لهم عظم القصاص: (أتدرون من المفلس؟ قالوا: يا رسول الله! المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع) فقال النبي صلى الله عليه وسلم مصوباً لهم معنى المفلس وأن النظر للآخرة لا للدنيا، فالدنيا لا تساوي عند الله شيئاً، فقال: (المفلس من أمتي الذي جاء بصلاة وصيام وذكر -عبادات حج وزكاة وجهاد- ثم قال: جاء وقد سب هذا، وشتم هذا، أو اغتاب هذا، وسفك دم هذا، وأخذ مال هذا، فأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، وهذا من حسناته، حتى إذا فنيت حسناته أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه فأكب في النار) فهذا هو المفلس بحق، جاء بحسنات كالجبال ففنيت؛ لأنه قدح في الناس، ولم يراقب الله جل وعلا في الناس، فاقتص منه في الآخرة.
نعوذ بالله من مسألة القصاص، ونستحل من أي أحد اغتبناه، ونسأل الله جل وعلا أن يغفر لنا، وأن يجعلنا نذكر محاسن من اغتبناه في أي مجلس من المجالس، أو أخذنا من أحد درهماً أو ديناراً لا يحل لنا، ونسأل الله أن يخلصنا من الدنيا لا لنا ولا علينا، فلا يكون علينا لأحد شيئًا، وإن كان لنا على أحد شيء فنحن نسامحه.
تأتي الأم لابنها، الأم التي قال النبي صلى الله عليه وسلم عنها: (أمك، ثم أمك، ثم أمك)، الأم التي جعل النبي صلى الله عليه وسلم الجنة تحت قدمها، التي جعلها هي والأب وسط الجنة، فلا تدخل الجنة إلا بهما، وقد قال الله جل وعلا: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:٢٣] فالأم أرفع منزلة من الأب، تأتي يوم القيامة فتقول: (أي بني! ألم تكن لك بطني وعاء؟ أي بني! ألم يكن لك ثديي سقاء؟ أي بني! ألم يكن لك حجري غطاء؟ أي بني! أحتاج إلى حسنة اليوم، فيقول الابن لأمه: أي أم! إني أحوج لها منك اليوم) ويبخل بهذه الحسنة على أمه التي تحتاجها.
فنحن أحوج ما نكون إلى هذه الحسنات، وكل منا سيقتص منه في الآخرة، ونعوذ بالله أن نتجرأ على أحد، أو أن نغتاب أحداً، أو أن نهضم حق أحد، نعوذ بالله من ذلك، وإذا فعلنا ذلك فنسأل الله أن يغفر لنا ويقتص منا في الدنيا لا في الآخرة، فليس هناك درهم ولا دينار، بل هي الحسنات والسيئات.