للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حكم تأويل صفة النزول إلى سماء الدنيا بنزول الأمر ونحوه]

من أقوال أهل البدع -الذين لم يجعلونا نسلم في عبادتنا لله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلا-: إن معنى نزول ربنا في ثلث الليل الآخر إلى السماء الدنيا: نزول أمره، ونزول ملائكته ورحمته، وإذا قلنا بنزوله فقد شبهنا الخالق بالمخلوق.

والرد عليهم من وجوه: الوجه الأول: هذا خلاف ظاهر الكتاب والسنة.

الثاني: أأنتم أعلم أم رسول الله؟! أأنتم أعلم أم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لو كان النزول نزول الأمر أو نزول الملائكة أو نزول الرحمة، لبينه النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا لم يبينه فإما أنكم تتهمونه بالتقصير في البلاغ، وإما أنكم أعلم منه، ولم يسعكم ما وسع النبي صلى الله عليه وسلم، فيهربون ويقولون: لا نتهم النبي صلى الله عليه وسلم بالتقصير، ونقول: إذا لم تتهموا النبي صلى الله عليه وسلم بالتقصير فالنبي قد بلغ ما أمره الله بتبليغه، وقال: إن الله جل وعلا ينزل إلى السماء الدنيا نزولاً يليق بجلاله وكماله.

الثالث: أنتم خالفتم طريقة السلف، فإجماع الصحابة أن الله جل وعلا ينزل إلى السماء الدنيا نزولاً يليق بجلاله وكماله جل وعلا.

الرابع: ليس لكم دليل صريح يؤول هذا الظاهر إلى المؤول الذي ادعيتموه، أين الدليل أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا للسماء الدنيا) فيه حذف، أي: أن الظاهر: أن النزول هنا مضاف للرب جل وعلا، فأين الدليل على حذف إضافة النزول إلى الرب نفسه سبحانه؟ هم يقولون: التقدير ينزل أمر ربنا، فنقول: الأصل عدم التقدير، وإن قلتم بالتقدير فأتونا بالدليل عليه، وعندهم دليل يثبت ذلك.

والقاعدة هذه لو حفظتموها فستردون على كل أهل البدع بنفس الطريقة.

الخامس: نتنزل مع الخصم ونقول: ينزل أمر ربنا، وتنزل الملائكة، وتنزل الرحمة، فهل يسلم هذا الكلام من معارضة أم لا؟ فلو قلنا: ينزل أمر ربنا تنزلاً مع الخصم فكيف نؤول حديث (فيقول: أنا الملك، هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟).

فأول اعتراض: هل أمر ربنا جل وعلا لا ينزل إلا في الثلث الآخر؟ وكيف تفعلون بقول الله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:٢٩]؟ يعني: كل وقت هو في شأن، يعز أقواماً ويذل آخرين، ويعطي هذا ويمنع هذا، يميت هذا ويحيي هذا، يرفع أقواماً ويخفض آخرين كما قال سبحانه: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:٢٩] يعني: كل حين وآن هو في شأن، فكيف خصصتم الأمر الذي ينزل ليل نهار وكل ساعة ودقيقة بثلث الليل الآخر؟ وإن قلتم: ينزل في ثلث الليل الآخر فإلى أين ينزل؟ إلى الأرض أم إلى السماء الدنيا؟ قال في الحديث: (إلى السماء الدنيا) يعني: لا ينزل للأرض، وفيها أن الله ينزل فكيف تؤولونه بالأمر؟! فهذا أول اعتراض عليهم، وهو اعتراض قوي لا يستطيعون رده.

الاعتراض الثاني: إن كان المراد نزول الأمر، فهل يقول: أنا الملك؟ والأمر كما هو معلوم صفة، فهل الصفة تقول: أنا الملك؟!! وهل أحد سمع صفة تقول له: تعال أولاً اذهب، أو افعل كذا؟ فهذا الاعتراض الثاني.

الاعتراض الثالث: لو قلنا: إن الأمر يقول: أنا الملك، فهل يقول أيضاً: هل من سائل فأتوب عليه؟ فهل الأمر هو الذي يتوب على العباد أم الله الذي يتوب على من يشاء وحده؟! الله الذي يتوب على العباد، وما قيل في الأمر يقال في الرحمة، أي: هل تختص الرحمة بالنزول في ثلث الليل الآخر؟ فالليل والنهار تأتينا فيهما آثار رحمة الله تترى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ} [النحل:٥٣]، هذه النعم من آثار رحمة الله جل وعلا كالمطر ونحوه، فهل ثلث الليل الآخر مختص برحمة الله جل وعلا دون ما سواه؟ حاشا لله.

ثم هل الرحمة تقول: أنا الملك؟ وهل الرحمة تقول: هل من سائل فأتوب عليه؟ وإذا قالوا: المراد نزول الملائكة، فيرد عليهم بنفس الردود، ثم نأتي إلى تأويل الدليل على زعمهم، فنقول: هل يسلم من المعارضة أم لا؟ أي: إذا قلنا: تنزل الملائكة في ثلث الليل الآخر، فهل هي تقول: هل من مستغفر فأغفر له؟ إلى آخر الحديث، ثم إن قلنا: إن الملائكة تنزل إلى السماء الدنيا، فهل نزول الملائكة يعلمه أحد بعقله أم من الوحي؟ لا شك أنا لا نعلم ذلك إلا من الوحي.

فهل جاءنا الوحي بنزول الملائكة إلى السماء الدنيا أم إلى الأرض؟

الجواب

معلوم أن الملائكة تتعاقب علينا كل يوم، ويتقابلون في الفجر وفي العصر، وينزلون إلى الأرض، فلم خصصتم نزول الملائكة إلى السماء الدنيا فقط؟ ألم يقل الله: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:١١] وهذا في الأرض فلم خصصتم ذلك بالسماء الدنيا؟ وأيضاً: هل الملك هو الذي يغفر؟ وهو الذي يتوب ويعطي؟ قال الله: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:٧] فهل هم يغفرون لمن في الأرض أم يستغفرون؟ يستغفرون، فبطل هذا التأويل.

والصحيح أن نرجع إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم، ونتعبد لله جل وعلا بهذه الصفة، أي: بأن الله ينزل إلى السماء الدنيا في ثلث الليل الآخر، فيقول: (أنا الملك هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من سائل فأعطيه؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من سقيم فأشفيه؟).