[أمثلة تطبيقية على القضاء الكوني والشرعي]
قال الله تعالى: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الأَرْضِ} [سبأ:١٤].
هذا قضاء كوني، والضابط الأول فيه هو أنه لا بد أن يقع حتماً، وكذلك الضابط الثاني وهو أنه يقع في ما يحب وما لا يحب.
وهل الله يحب موت سليمان أو لا يحبه؟ في المسألة نظران نظر الرب، ونظر العبد، ويوضح ذلك حديثان، الحديث الأول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحب لقاء الله أحب الله لقائه، فقالت عائشة: أينا يحب الموت؟ فقال: ليس بذلك يا ابنة الصديق) ثم بين لها أن العبد عندما يصل إلى الأجل يبشر أو ينذر، فالمؤمن عندما يبشر يحب لقاء الله في هذا الوقت فيحب الله لقاءه.
إذاً: فحديث: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه)، ليس على الإطلاق، والحديث الثاني هو الذي يوضح لنا المسألة جلية، قال الله تعالى في الحديث القدسي: (وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس المؤمن يكره الموت، وأكره إساءته) والجمع بين الحديثين: أن المؤمن يكره الموت، وما من أحد إلا ويكره الموت، ولكن عندما يبشر تتحول هذه الكراهية إلى حب؛ لأنه سيحب لقاء الله، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (اللهم الرفيق الأعلى، اللهم الرفيق الأعلى)، وهنا يحب الله لقائه.
وأما كراهية الموت فقبل أن يبشر؛ لصعوبة الموت، فلما يبشر يقول: اللهم الرفيق الأعلى، اللهم الرفيق الأعلى.
ولذلك عندما قالت عائشة منكرة: أينا يحب الموت؟ قال صلى الله عليه وسلم: لا يا ابنة الصديق، فبين لها أنه عندما يبشر المرء يحب لقاء الله، وكان من كرامات الشهداء في أفغانستان وفي أماكن أخرى أن الرجل عندما يقذف بالقذيفة ويرونه يقفز فيأولونه على أنه رأى الحور العين، أو رأى الجنة، فقبل أن تنتهي حياته يبشره الله جل وعلا كرامة له.
وأما قبل فلا يحب الموت لصعوبته؛ لأنه ما من أحد إلا ويجد صعوبة للموت، وصعوبته تحت القبر، لأن كل أحد سيضم عليه القبر.
وأما قول الله جل وعلا: (ما ترددت بشيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس المؤمن)، فهو يكره الموت بسبب الإساءة والصعوبة التي فيه، وقوله: (وأكره أساءته)، وهذه الصعوبة في القدر، ولها أثرها المترتب عليها وهو الجنة، فلا يمكن أن يدخل الجنة حتى يموت، فلابد أن يموت للحاجة التي هي أعظم.
وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:٢٣].
هذا قضاء شرعي؛ لوجود الضابط الأول فيه، وهو أنه فيما يحبه الله؛ لأن الله جل وعلا يحب أن يعبده العبد، وأن يوحده في الأرض.
والضابط الثاني: وهو أنه قد يقع وقد لا يقع، وأكثر الناس ضلوا وكفروا.
وقال تعالى: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} [الأنبياء:١١٢].
يقول ابن رشد رحمة الله عليه: ليس طالب العلم من يحفظ المسائل، وإنما طالب العلم من يضبط المسائل.
فقوله: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} [الأنبياء:١١٢] كوني؛ لأن الله إذا حكم فلا يحكم إلا بالحق، وإذا حكم وقع الحكم لا محالة، ولا أحد يمكن أن يرد على الله حكمه.
وقال تعالى: {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} [الممتحنة:١٠]، {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة:١] يعني: فاقبلوه واعملوا به، أو لا تعملوا فحكم الله في الذبيحة أن تسموا الله عليها، وألا تأكلوا منها إلا إذا ذكر اسم الله عليها، وحكم الله أن الرجل إذا طلق امرأته ثلاثاً فلا ينكحها حتى تنكح زوجاً غيره.
ولما طلق الملك امرأته ثلاثاً في عهد يحيى عليه السلام، وأراد أن يتزوجها استفتى يحيى، فقال له يحيى: لا تحل لك حتى تنكح زوجاً غيرك.
فما زالت هذه المرأة اللعينة بالرجل حتى قالت: اقتله، وأرحنا منه، فقال: إنه نبي! فقالت: اقتله.
فما زالت خلفه حتى قتل يحيى، فأخذ رأسه على طبق وأهداه لهذه البغي.
ولم يقف بنو إسرائيل عند ذلك، بل ذهبوا إلى زكريا وقتلوه، فقد اختبئ منهم في شجرة انشقت له، وقالت: اختبئ فيّ، فدخل فيها واختبئ ولم يسكت بنو إسرائيل عن ذلك، بل ذهبوا خلفه وكان معهم الشيطان، وهو رئيسهم، فقال: هو هنا مختبئ في هذه الشجرة، وقد كان طرف ثوبه ظاهراً في شق الشجرة، فأخذوا المنشار وشقوا الشجرة، فشقوا زكريا عليه السلام نصفين.
فإذا كانوا قد فعلوا ذلك مع أنبياء الله، بل ارتقوا واتهموا لوطاً بالزنا، وارتقوا أكثر واتهموا الله جل وعلا بالفقر وبالبخل، وأنه يبكي، وأنه ما كان يعلم ما يحدث في الأرض، فلا يستغرب الإنسان من هؤلاء أن يفعلوا ذلك مع آحاد الناس، والغرض المقصود أن هذا هو حكم الله، فمن شاء عمل به، ومن شاء تركه.
وقال الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:١٨٥]، بقضاء شرعي؛ فهناك أناس في السجن، وهناك أناس لا يجدون ما يأكلون، فهؤلاء في عسر مع أن الله يحب لهم اليسر.
وقال الله تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء:٢٧]، وهذا قضاء شرعي؛ لإنه يمكن أن يتوب أناس، ولا يتوب آخرون.
وقال الله تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:١٦]، وهذا قضاء كوني، وقال تعالى: (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة:٢١]، وهذا كوني كذلك.
يعني أنه لابد أن يقع، ولا بد أن يكون النصر للمؤمنين، وإنشاء الله النصر للمؤمنين، ولو علت أصوات الكفار والمنافقين، فالله جل وعلا وعد المؤمنين بأن العاقبة لهم.
فهي لهم هنا قضاء كونياً، وهو قول الله جل وعلا: (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة:٢١]، فالغلبة لله ولرسوله وللمؤمنين، الذين ساروا على نهج رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقال الله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:١٠٥]، بقضاء كوني.
فالأرض سيرثها المؤمنون إنشاء الله، ويكثرون من السبايا من الأمريكان وغيرهم بإذن الله.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:١٨٣]، بقضاء شرعي.
وقال الله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:٨٢]، بقضاء كوني.
وقال تعالى: (وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب:٣٨]، وهذا قضاء كوني.
وقال تعالى: (وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} [مريم:٢١]، بقضاء كوني.
وقال الله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} [الإسراء:١٦]، وهذا قضاء كوني شرعي.
فعندما يكون شرعياً يكون المعنى: أمرنا مترفيها بفعل الخيرات والطاعات، فمنهم من يفسق فيستحق العقاب، فهذا شرعي.
ولو قلنا: إنه كوني، فعلى قراءة أخرى ((وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَّرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا)) بتشديد الميم في (أمرنا).
وقال الله تعالى: (وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:١٠٢] والإذن هنا قضاء كوني.
وقال الله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [الحشر:٥]، وهذا قضاء شرعي.
فالله يريد أن تحرق وتكسر وتقطع إذا كان في ذلك مصلحة للمسلمين، أو كان المشركون يستعينون بها على قتل المسلمين، فللمسلمين أن يفعلوا ذلك، ولهم أن يتركوه إذا لم يكن فيه مصلحة لهم، فلا يجوز أن يقتلوا وليداً ولا امرأة ولا شيخاً، ولا يقطعوا شجرة، فالأمر برضاء الله جل وعلا في القطع وفي غير القطع.
وقال الله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس:٥٩]، وهذا قضاء شرعي.
أي: هل الله أذن لكم بذلك في كتابه؟ وقال الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:٢١]، وهذا شرعي.
وقال الله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا} [يس:٨ - ٩] فالجعل الأول والجعل الثاني كوني؛ لأن المقصود بأن المتكلم يمر بهم وهم لا يرونه.
وقال تعالى: {وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} [يونس:١٠٠]، وهذا قضاء كوني؛ لأنه لا يحب أن يجعل الرجس على أحد، ولا يرضى لعباده الكفر، ولكن قدر ذلك كوناً.
وقال الله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} [المائدة:٩٧]، وهذا شرعي فمن الناس من يقوم ومنهم من لا يقوم، وقال الله سبحانه: {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس:٣٣]، وهذا قضاء كوني؛ لأنه وقع فيما لا يحب الله جل وعلا، وقد يقع فيما يحبه الله كقوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا} [الأعراف:١٣٧].
وقال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:٦] ويقول ال