للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أهمية الإيمان بالقدر]

تكمن أهمية الإيمان بالقدر؛ في الركن السادس من أركان الإيمان، ومن نفاه أو تركه أو لم يعتقد بأن الله جل وعلا كتب كل شيء قبل أن يخلق كل شيء فهو كافر بالله العظيم، خارج من ملة الإسلام.

ففي الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: (أن جبريل جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأسند ركبتيه إلى ركبتيه وسأله وكان مما سأله أن قال: أخبرني عن الإيمان؟ -يريد: أركان الإيمان- فقال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره)، فهو الركن السادس من أركان الإيمان، والركن كما عرفه علماء الأصول: هو ماهية الشيء، وهو ما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم.

ومعنى يلزم من وجوده الوجود: أنه إذا وجد هذا الركن وجد الأمر، وإذا نفي نفي الأمر.

مثال ذلك: الركوع فهو ركن من أركان الصلاة، فإن وجد الركوع صحت الصلاة، وإن لم يوجد الركوع فالصلاة باطلة، فلو أن رجلاً كبر تكبيرة الإحرام ثم قرأ الفاتحة ثم سجد دون أن يركع فلا تصح ركعته بالإجماع؛ لأنه لم يأت بركن من أركان الصلاة، وكذلك الأمر بالنسبة للقدر فهو ركن من أركان الإيمان فالذي يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ثم لا يؤمن بالقدر فإنه لم يأت بالإيمان كله، فهو خارج من ملة الإسلام، ولذلك قال ابن القيم عن عوف بن مالك: قال عوف: من كذب بالقدر فقد كذب بالإسلام.

وفي المسند عن عبادة بن الصامت لما دخل عليه ابنه وسأله عن القدر أو قال: أوصني أوصاه، ثم قال: إن لم تؤمن بالقدر دخلت النار.

وفي رواية: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم بريء منك، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يبرأ إلا من الكافر.

وقد بين اللالكائي أن طاوس قال]: أدركت ثلاثين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يقول: إن الأمر بقضاء وقدر.

قال الله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:٤٩]، وقال جل وعلا: {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} [القمر:٥٣] أي: مكتوب في اللوح المحفوظ.

وقال جل وعلا: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:٢٢].

اختلف العلماء: في عود الضمير في قوله: نبرأها، فقيل: على النفس، والمعنى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إلا في كتاب من قبل أن نبرأ النفس، وقيل: على الأرض، والمعنى: من قبل أن نبرأ الأرض، وقيل: إن الهاء عائدة على المصيبة، والتحقيق: أنها عائدة على كل ذلك: قبل أن يخلق الله النفس، وقبل أن يخلق الأرض، وقبل أن يخلق المصيبة التي تنزل على النفس، فقد كتبها الله في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، قال الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:٢٢] أي: من قبل أن نبينها ونظهرها ونوجدها.

وقال جل وعلا: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:١١] قال العلماء: ومن يؤمن بأن هذه المصيبة كتبت عليه قبل أن يخلق هدى الله قلبه للإيمان، وجعله يستسلم لقضاء الله، وكان برداً وسلاماً عليه وأجر على ذلك.

فمن رضي فله الرضا ومن سخط فعليه السخط.

وأيضاً في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإذا أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان).

وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم كراهة النذر فقال: (إن النذر يستخرج الله به من البخيل)، وقال أيضاً: (النذر لا يأتي بخير) أي أنه لا يرد قدر الله جل وعلا، بل إن الله قدر الأمر ويستخرج من البخيل ما نظر على نفسه.

وفي الصحيحين أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في صحفتها -يعني: تأخذ رزقها- ولتنكح -أي: تنكح من زوجها- فإن لها ما قدر لها) والمعنى: أن الذي كتب لها سيأتيها ولا يستطيع أحد رده، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يبين خطر عدم الإيمان بالقدر ويقول: (أخوف ما أخاف على أمتي حيف الأئمة -المضلين- وتكذيباً بالقدر، وإيماناً بالنجوم)، وفي رواية: (أخاف على أمتي تكذيباً بالقدر وإيماناً بالنجوم)، نعوذ بالله من الإيمان بالنجوم أو التكذيب بالقدر.

وجاء في القدر أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ ابن عباس مرشداً له -والحديث رواه أحمد في مسنده-: (يا غلام! إني أعلمك كلمات إلى أن: واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ولو اجتمعت الأمة على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)، فلو اجتمعت الأمة قاطبة على أن يجروا لك ربحاً أو يوقعوا بك خسارة فلن يأتيك إلا ما قدره الله لك.

وجاء أن أبا هريرة رضي الله عنه وأرضاه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكوا ضعف الباءة لديه، وهو يشتاق للنساء، فقال: (يا رسول الله! أأختصي -فإني لا أستطيع أن أتزوج-؟ فقال: يا أبا هريرة! جف القلم على ما أنت لاق) أي أن الأمر مكتوب سواءً اختصيت أم لا فما كتب ستلقاه.

كما أنه لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أمر العزل: وهو أن يجامع الرجل امرأته ثم إذا قرب الإنزال أنزل خارج الفرج؛ لأنه لا يريد أن تخصب البويضة فأجاب قائلاً: (إذا أرد الله خلق شيء لم يمنعه شيء)؛ لأن الأمر إذا كتب وقضي فلا راد له، ولذلك طيب النبي صلى الله عليه وسلم قلوب الذين يلهثون وراء أطماع الدنيا، ويسارعون في كسب أكبر قدر منها -حتى أن جلهم ينطبق عليه حديث النبي صلى الله عليه وسلم (حمار بالليل جيفة بالنهار)، فلا هو ترك لنفسه وقتاً بالنهار ليتعلم، ولا بالليل ليقمه لربه- فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (نفث في روعي الروح الأمين أنه لن تموت نفس حتى تستوفي أجلها ورزقها فأجملوا الطلب).

فلو أنك آمنت بالقدر وعلمت أن رزقك قد كَتِبَ وأنه لا شك آتيك، فلن تلهث وراء حطام هذه الدنيا الفانية، وقد كان الحسن البصري يَعلم حديث النبي صلى الله عليه وسلم ويطبقه فكان يأخذ التمر فيبيع تمرات قدر قوت يومه ثم يجمع حاجته ويذهب فيقول له الناس بع يا رجل فقد أتاك المشرتون فهذا رزق ساقه الله إليك فيقول: علمت أن رزقي بيد ربي ولن يصل إلى غيري فاطمأن قلبي؛ لأنه آمن بالله، وآمن أن الرزق قد كتب والأجل قد كتب، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أجملوا الطلب)؛ لأن المكتوب سيأتي.

وكما أن الأجل سيأتي فالرزق يسعى إلى المرء أشد من سعي الأجل إليه، ولذلك جاء في بعض الآثار الإلهية: (عبدي انشغل بي أكفك الهموم كلها، وإن انشغلت بالدنيا وعزتي وجلالي لأسلطن عليك الدنيا تركض فيها ركض الوحوش في البرية، ولن تأخذ إلا ما قسم لك) فلو رقيت إلى السماء أو غصت في أعماق المحيطات فلن تأخذ إلا ما كتب لك، فمن آمن بالقضاء والقدر ولم يوكل عقله وكان مستسلماً لربه فقد أراح واستراح، فتراه إن نزلت عليه البلايا والمصائب ضاحكاً مستبشراً يعلم أن الله حكيم ولم يقدر عليه إلا الخير، ولذلك قال بعض السلف: إذا نزلت المصيبة بالعبد فإنها تحمد على ثلاث: على أنها كانت مكتوبة في الأجل وقد وقع وانتهى الأمر، وعلى أنها لم تكن أكبر مما كانت، وعلى أن الله يرفق بالعبد إذا نزلت به المصيبة، فإنه حكيم عليم لطيف خبير.

إذاً القدر: قدرة الله وهو سر مكتوم لا يعلمه إلا الله جل وعلا، وهذه هي الأدلة على القضاء والقدر، ولن ينتظم إيمان عبد بالقضاء والقدر حتى يؤمن بكل ما تقدم لأن ذلك لازم من لوازم الإيمان بالقدر.