وأما كيفية تعلم السحر، فأما خفة اليد فتسألون عنها هؤلاء الذين يسرقون أعين الناس ويسترهبونهم.
وأما بالنسبة لكيفية تعلم السحر الحقيقي الذي يؤثر فإن ذلك يكون عن طريق الشياطين، فالشيطان يعلم المرء كيف يطير في الهواء أمام الناس، أو يمشي على الماء، أو يأتي بخوارق العادات كما يفعله كثير من الكهنة والمشعوذين والدجاجلة، وآخر هؤلاء الدجاجلة وأكبرهم هو المسيح الدجال كما سنبينه، فالغرض المقصود أن الشيطان هو الذي يعلم المرء كيف يأتي بهذا المؤثر حقيقة بإذن الله الكوني، وقد ورد في بعض الروايات كما أوردها المصنف عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها:(أنها جاءت امرأة إلى عائشة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: أتتني امرأة عجوز ومعها كلبان أسودان، فقالت لي: اركبي هذا الكلب -وهو من الجن- قالت: فركبت هذا الكلب وركبت العجوز الكلب الآخر، قالت: فسار بي فأسرع فوجدت نفسي عند بابل، وهناك رجلان معلقان فقالا لي: اذهبي إلى التنور، فبولي فيه، قالت: فارتبت فتراجعت، فقالا لي: ارجعي ولا تكفري، ثم رجعت لهم مرة ثانية، فقالا لي: اذهبي إلى التنور فبولي، قالت: فارتبت فرجعت، فقالا لي: ارجعي ولا تكفري)؛ لأن الله جل وعلا قال:{وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ}[البقرة:١٠٢]، (قالت: فارتبت فرجعت، ثم رجعت مرة ثانية فقالا لي: اذهبي فبولي عند التنور، قالت: فذهبت فبلت عند التنور فخرج مني فارس صنديد فصعد إلى السماء، فرجعت إليهما فقالا لي: ماذا رأيتي؟ قالت: رأيت فارساً خرج مني صعد إلى السماء، قالا: صدقت، هذا إيمانك قد خرج منك).
ورواه أيضاً ابن جرير الطبري في تفسيره بسند صحيح إلى عائشة رضي الله عنها وأرضاها، فهذه دلالة واضحة على أن الذي يتعلم من الشيطان السحر يكفر، وهي ذهبت تستفتي الصحابة فكل الصحابة يتورع عن الإجابة ويقول لها: لا أفتي في شيء لا أعلمه! وهذا تعليم لنا أن نقف عند حد ما تعلمناه.
فالمقصود أنها تعلمت السحر من هنا، فكل ساحر عاتٍ مشعوذ دجال لا يمكن أن يأتي بالسحر الذي تراه أنت إلا وقد قدم القرابين للشياطين، وهذه القرابين إما أن يسجد للشيطان، أو أن يمتهن المصحف ويدخل به الحمام، أو يتوضأ بالبول، ويفعل أشياء تأمره بها الشياطين، فيأتي بها حتى يمتعه الشيطان، وهذا تصديق لقول الله تعالى:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا}[الأنعام:١٢٨]، فاستمتاع الجني بالإنسي أن الجني يقدم له العبادة التي لا تصح إلا لله جل وعلا، فيمتعه بهذا الكفر، وهو سيكون قريناً معه في النار؛ لأنه أخذ عزماً على نفسه إلى يوم الدين: أنه لابد أن يكفر بني آدم، فهذا يسجد له، أو يكفر بالله جل وعلا، أو يمتهن المصحف، أو يفعل ذلك أمام الناس، فهذه متعة الجن والعياذ بالله.
أما متعة الإنسي فإنه يأتي الناس فيحدثهم بالمغيبات، والجن يسترقون السمع كما بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه يركب بعضهم بعضاً حتى يصل المارد إلى السماء فيسترق السمع، فمنهم من يسمع صريف الأقلام فيسمع كلمة، فقبل أن يأتيه الشهاب -وهو ميت لا محالة- يقرقرها في أذن من تحته من الجن حتى تصل إلى أذن الكاهن، فيكذب عليها مائة كذبة، كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم.
فهذه متعة للبشر: أن يقول للناس ويخبرهم بأمور مغيبات حقاً، أو يخبرهم على مغيب نسبي وليس مطلقاً، كالمسروقات، فالجني هذا يحدث الجني الآخر فيقول: هي في المكان الفلاني، أو يقول: هذه سرقها فلان بن فلان، فيحدث به ويخبر به، أو يمتعه أكثر بأنه يفعل له خوارق العادات أمام الناس، كأن يكون في الإمارات يوم عرفة، فيراه الناس الذين في الحج في عرفة، فيسلم على الناس وهو في الإمارات وفي نفس اليوم يأخذه الجني ويطير به إلى عرفة، فالجني يقوى على هذا، فالله جل وعلا أعطاهم هذه الخفة، فيطير به إلى أن يقف في عرفة يوم عرفة فيحج مع الناس، والناس تنظر في ذلك وتنبهر به، وقد يألهونه من غير الله جل وعلا، فالجهال الأغمار يفعلون ذلك، فهذه متعة أيضاً يمتع بها الجن الإنس.
فهذه هي المتعة التي يقدمها الجن للإنس، وأما المتعة التي يقدمها الإنس للجن فهي أن يسجد له أو يكفر بالله العظيم.