للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الأدلة على تفاوت التصديق]

إن تصديق الملائكة لا يساويه تصديق أحد من الخلق، فتصديق الصحابة الكرام لا يداني تصديق الملائكة الذين رأوا كمال الله جل وعلا، وجماله وعظمته وآثار قوته وجبروته.

وأيضاً فتصديق الصحابة الكرام لا يداني تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أُوحي إليه، وكذلك تصديق التابعين لا يساوي تصديق الصحابة، بل إن الصحابة الكرام يتفاوتون فيما بينهم في التصديق، فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه سبق الجميع؛ لتصديق قلبه بالله جل وعلا، وبما أوحاه الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم.

وهذه أمثلة تبين لك زيادة التصديق وعلوه إلى السماء: فـ أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بعلو التصديق، وذلك لما غاضب أبو بكر عمر رضوان الله عليهما، فجاء أبو بكر وحسر عن ركبته، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إليه وقال: (أما صاحبكم فقد غامر)، وعلم أن هناك مشاحاة بينه وبين أحد الصحابة، فلما جاء عمر بعده نظر النبي صلى الله عليه وسلم إليه مغضباً وتمعر وجهه، وعُرف الغضب في وجه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: (هلا تركتم لي صاحبي؟! صدقني وكذبتموني)، فشهد له النبي صلى الله عليه وسلم بعلوه في التصديق.

وأيضاً: ظهر علو تصديق أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه على الصحابة بما فيهم عمر وعثمان وعلي في مواقف كثيرة جداً.

منها: لما مات النبي صلى الله عليه وسلم قال عمر من قال: (إن نبي الله قد مات علوته بسيفي هذا، إن رسول الله ذهب إلى ربه وسيرجع كما ذهب موسى إلى ربه ورجع، ثم دخل الصديق بعلو صدقه في قلبه على النبي صلى الله عليه وسلم فبكى، ثم قبل النبي صلى الله عليه وسلم بين عينيه وقال: طبت يا رسول الله حياً وميتاً، ثم خرج على الناس فقال: أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم قرأ قول الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران:١٤٤].

فخر عمر رضي الله عنه وأرضاه مغشياً عليه؛ لأنه لم يحتمل الموقف، لكن تصديق أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه كان أقوى فثبت في هذا الموقف؛ لذلك فالعلماء حينما يفاضلون بين الملُهم وبين الصديق فإنهم يقولون: الصديق أعلى مقاماً من الملهم، فـ عمر كان ملهماً بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن كان في هذه الأمة ملهم فهو عمر بن الخطاب)، لكن الصديق لم يحتج إلى إلهام؛ لأن قلبه ناصع، فيجري الحق على قلبه دون إلهام.

ودليل ذلك أيضاً: أن أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه وافق كلامه كلام النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية، وأما عمر فلم يتحمل هذا الموقف فقال: (يا رسول الله! ألسنا على الحق؟ قال: نعم، قال: أليسوا على الباطل؟ قال: نعم، قال: فلم نعطي الدنية في ديننا؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنا رسول الله ولن يخذلني الله جل وعلا، ثم رجع عمر وقال: أذهبُ إلى أبي بكر لعله يؤثر في رسول الله، فذهب إلى أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه فقال: يا أبا بكر! ألسنا على الحق؟ قال: بلى، قال: أليسوا على الباطل؟ قال: بلى، قال: فلم نعطي الدنية في ديننا؟! فقال أبو بكر بتصديقه التام المجرد في قلبه الناصع، مثل ما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: هو رسول الله ولن يخذله الله، والزم غرز رسول الله صلى الله عليه وسلم).

فهذا يدل على التفاوت في التصديق القلبي بين الصحابة رضوان الله عليهم وأرضاهم.

وأيضاً: مما يدل على التفاوت في الإخلاص والمحبة، قول عمر رضي الله عنه وأرضاه لما استعلى يقينه بربه: والله إني لا أحمل هم الإجابة -أي: إجابة الدعاء- ولكني أحمل هم الدعاء، فإذا رفعت يدي لله جل وعلا فإن الله سيقبل دعائي يقيناً؛ عملاً بقول الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:٦٠].

فاستيقن بقول الله تعالى، فقال: والله إني لا أحمل هم الإجابة؛ لأني على يقين منها؛ لأن القائل هو الله، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء:٨٧]، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:١٢٢].

واستعلى يقين خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه لما شرب السم أمام ملك الروم أو الفرس، واستحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال: باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم لم يضره شيء).

فاستيقن في هذا وعلم النتيجة يقيناً ثم وقف أمام الرجل وأخذ السم وقال: أشرب هذا أمامك ولا أموت، فأخذ السم وقال: (باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم) وشرب السم ولم يحدث له شيء.

وكذلك همم الصحابة علت لما علا اليقين والتصديق في قلوبهم، فجاء رجل في غزوة أحد أو في غيرها للنبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله ما يضحك الرب؟ فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: أن تتقدم مقبلاً غير مدبر، وتخلع درعك وتقدم نحرك أمام الأعداء، فتقاتل حتى تقتل في سبيل الله، قال: أيضحك الرب من ذلك؟ قال: يضحك الرب من ذلك، قال: يا رسول الله، إذاً: لن نعدم خيراً من رب يضحك، ثم أخذ الدرع فألقاه، وأخذ السيف ودخل حين حمى الوطيس يقاتل في سبيل الله، وقدم نحره حتى قتل في سبيل الله)، ونحن على يقين أن الله سيضحك له يوم القيامة، ثم ينال رحمات الله في الفردوس الأعلى إن شاء الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، نحسبه كذلك بإذن ربنا الجليل، وقبح الله المبتدعة الذين ينفون صفة الضحك.