[أقسام الناس في السب واللعن للصحابة رضوان الله عليهم]
قد تكلمنا فيما سبق عن حكم سب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وواجب الأمة نحوهم، وقلنا: إن الناس ينقسمون في السب واللعن لخير البشر -لجهلهم وغبائهم وشدة عنائهم وعذابهم في الآخرة إن لم يتوبوا- إلى أربعة أقسام: القسم الأول: أناس سبوا صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرموهم واتهموهم بالقبائح، كغلاة الشيعة وغلاة المعتزلة، فقد قالوا: كل الصحابة ارتدوا عن الدين إلا أربعة نفر، منهم: سلمان وغيره ممن عدهم الشيعة، فهؤلاء بالإجماع كفرة خرجوا من الملة.
القسم الثاني: الذين يسبون ويطعنون ويلعنون الشيخين، كما يقول قائلهم: اللهم العن صنمي قريش، يقصد أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، ويطعنون أيضاً في دينهم وأعراضهم، فهذا أيضاً كفر بالإجماع.
القسم الثالث: الذين ينتهكون عرض عائشة رضي الله عنها وأرضاها، ويتهمونها بالإفك الذي برءها الله منه من فوق سبع سموات، وهؤلاء أيضاً قد كفروا بالإجماع؛ لأنهم كذبوا كلام الله تعالى، وكذبوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم.
القسم الرابع: هم من الفسق والبدعة بمكان، وهؤلاء الذين يغمزون ويلمزون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يقدمون بعض الصحابة على بعض، كأن يقول أحدهم: معاوية سارق للخلافة، كان يقاتل من أجل حطام الدنيا، أو يغمز علياً، أو يغمز بعض الصحابة الآخرين، فهذا الغمز واللمز للصحابة من الفسق، وصاحبه على خطر عظيم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين-: (لا تسبوا أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً: (الله الله في أصحابي لا تسبوا أصحابي، أو قال: الله الله في أصحابي من أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم)، وجاء بسند ضعيف متكلم فيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إن الله اختارني من بين الناس نبياً، واختار لي أصحاباً، وجعل منهم مهاجرين وأنصاراً، فمن أحبهم فقد أحبني، ومن أبغضهم فقد أبغضني، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك الله جل وعلا أن يأخذ)، والله جل وعلا إذا أخذ أحداً لم يتركه.
كما ورد أيضاً بسند متكلم فيه، لكن الشواهد تعضده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لعنة الله على من سب أصحابي).
وجاء أيضاً بسند صحيح عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها أنها قالت: (أمروا أن يستغفروا لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلعنوهم وسبوهم).
قال: ابن عمر لا تسبوا أصحاب محمد، فإن مقام أحدهم -أي: بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورؤيته لرسول الله صلى الله عليه وسلم- كعمل أحدكم في عمره كله.
أي: أنه لو صام النهار، وقام الليل، وأنفق وجاهد في سبيل الله، فلن يبلغ مقام أحدهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو رؤية وجه النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك فإن المحققين من أهل العلم الذين يبينون الفارق بين معاوية وعمر بن عبد العزيز، يقولون: إن عمر بن عبد العزيز وأهل بيته أجمعين لا يساوي يوماً واحداً من أيام معاوية مع النبي صلى الله عليه وسلم، لما لـ معاوية من فضل، ككونه من كتاب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأيضاً قد نظر إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم، وكفى بذلك فخراً ومزية.
وقال ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه لما استنصحه ميمون بن مهران، فقال: انصحني في قوم يعتدون على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا ميمون! -نصيحة يعض عليها بالنواجذ- لا تسب أصحاب محمد، وادخل الجنة بسلام، أي: أن دخولك الجنة بسلام مرهون بأن لا تسب أصحاب محمد، وإن سمعت سب أصحاب محمد فلا تسكت، بل لابد أن تنكر، لأن الساكت عن الحق، أو الرضا بالمنكر كمرتكبه.
ثم قال ابن عباس: أُمِرْنا أن نستغفر لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان يعلم جل وعلا أنهم سيقتتلون.
أي: أن الله كتب قدراً أنهم سيقتتلون، وستحدث منهم الفتن، ومع ذلك أمرنا بالاستغفار لهم، وإذا كان لا يجوز سب أو شتم آحاد المسلمين؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)، فكيف بالذين يطعنون في علماء المسلمين، أو في طلبة العلم! إن هؤلاء من أشر الناس؛ لأنهم وقعوا في أفاضل الناس، فكيف بالأدهى والأطم أن يقعوا في الأخيار الأماجد، الذين قال فيهم ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: إن الله نظر في قلوب العباد فوجد أفضل القلوب قلب محمد فاختاره نبياً، ثم نظر في قلوب العباد فوجد أفضل قلوب العباد بعد قلب نبيه قلوب أصحابه، فاختارهم لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فهم أبر الناس قلوباً، وأعمقهم علماً، وأحسنهم خلقا.
فإذا كان الاعتداء على أحد المسلمين فيه من الفسوق ما فيه، فكيف بصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم! وهو القائل -كما في الصحيح-: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)، وقال بعض علمائنا -فيمن ينتقص من قدر العلماء، وقدر طلبة العلم-: إن لحوم العلماء مسمومة، وإن عادة الله في هتك منتقصيهم معلومة.
فالله جل وعلا ينكل أشد النكال في من يقع بعالم من علماء الأمة، ولو اتهمه بأنه عالم سلطة لغير قرينة، أو اتهمه بفتوى قد أفتاها، وإن كان قد أخطأ فيها، وأنزل من قدره، فعادة الله لمثل هذه الرجل معلومة، وعادة الله في منتقصيهم معلومة، فما بالكم في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم! وقد ورد في الآثار والأخبار التي تبين هذا العقاب الشديد في الدنيا، ثم ينتظرون أشد النكال والعقاب يوم القيامة، يوم يقال لهم: سحقاً سحقاً، بعداً بعداً، ثم يكون أشد العذاب من الله جل وعلا على من سب الأصحاب.