[عدم علم النبي صلى الله عليه وسلم بالغيب]
السؤال
لماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أصحابي أصحابي) لمن منعوا من الورود على حوضه، ألا يعلم رسول الله ما في القلوب؟
الجواب
رسول الله لا يعلم ما في القلوب، والذين منعوا من الورود على حوضه رأى منظرهم كالصحابة وكانوا من المنافقين، والله أعلم بهم، ألم يقل الله جلا وعلا: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [التوبة:١٠١]، فدلت الآية على أنه لا يعلمهم، فهؤلاء من الذين لا يعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (أصحابي أصحابي -أي: في الظاهر-، فيقال له: لا تدري ما أحدثوا بعدك، فيقول: بعداً بعداً، سحقاً سحقاً) فلا حجة في الحديث لمن يدعي أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب.
والمبتدعة سيدخلون في الحديث؛ لتغييرهم وتبديلهم، فإذا كان هؤلاء من الصحابة في الظاهر ويقال لهم ذلك فمن باب أولى من جاء بعدهم من المبتدعة، أي: سيقال لهم: (سحقاً سحقاً، بعداً بعداً).
ولما سب خالد عبد الرحمن بن عوف قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أصحابي أصحابي، لا تسبوا أصحابي) مع أن خالداً صحابي وأي صحابي! لكن الإسلام يبين حتى منازل الصحابة، وهذا تفضيل آخر سنبينه، أي: أن كل الصحابة يتفاوتون، فأعلاهم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان على خلاف فيه: إذ الشوكاني والثوري وأبو حنيفة يقدمون علياً على عثمان كما سنبين، فهذا الترتيب أي: بتقديم عثمان على علي قد أجمع عليه بعد ذلك أهل السنة والجماعة، ثم بعد ذلك العشرة المبشرين بالجنة، ثم الصحابة الأفاضل.
فالنبي صلى الله عليه وسلم يبين لـ خالد وهو الصحابي الجليل أن عبد الرحمن يقدم عليه؛ لأنه أي: عبد الرحمن من السابقين الستة، وقد قال الله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} [الحديد:١٠].
وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدمون توحيدين -فسادوا وقادوا-: توحيد رب العالمين وتوحيد الاتباع لرسول الله، فلا يوجد أهواء، ولا إحداث، ولا بدع، بل كلهم يقولون: سمعنا وأطعنا.
وأما نحن فصرنا غثائية، كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم (قالوا: أو من قلة نحن يا رسول الله؟! قال: لا، إنكم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل).
قال تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد:١٧]، فنحن غثاء في هذا الزمان إلا قليلاً.
ونحن في غربة تحت غربة تحت غربة، ولا عبرة بكثرة المخالف، يقول تعالى مبيناً لنا أن الكثرة مذمومة: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:١١٦]، فإن القلة التي هي على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه هم أهل الحق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم).
ويوجد كثير من الناس قد يسمع الرقة والموعظة فترق نفسه، فالذي كلمه وقال له: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ستفطر عندنا) هذا هو الذي يأخذ منه الدين، وأما العالم الذي يهتم بالدين فلا يأخذ عنه شيئاً، فالأمة ضائعة بسبب هذا، أي: لم تعرف موازين الناس، ولم تقدرهم قدرهم، أي: لم يضعوا كلاً في قدره ومكانته، فلم يعلموا أن الداعية داعية، والعالم عالم، وهو بستين ألف داع، إذ العالم داعية وزيادة، فالعالم يرسخ لنا العلوم التي نسير بها إلى الله جل وعلا، أما الداعية فما له إلا كلمات طيبة يجذب بها الناس، ثم قد يكون مخلصاً فيقول: لست لها أنا، بل لها العلماء، اذهبوا فتعلموا، أنا أتيت بكم إلى الطريق ولكنه ليس طريقي الصحيح، وإنما هو طريق العلماء، فنحن ضعنا بمثل هذا.
والعوام لا دخل لهم بشيء، وإنما يريدون الكلمة الطيبة لكي يذهبوا ورائها.
ودليل ذلك أن علياً بن أبي طالب لما صنف الناس إلى ثلاثة أقسام: عالم رباني، وطالب علم على سبيل النجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق، لم يستضيئوا بنور العلم.
وهذا هو المهم، أي قوله: لم يستضيئوا بنور العلم، أي: لما كانوا كذلك أصبحوا أتباع كل من يتكلم عن الدين بعاطفة، فيقولون: هذا هو الدين.
وهذا خطر، فهناك بعض الناس يستغلون هذا ويجعلونهم أي: العوام، رأس مالهم، حتى يقول العامة: هذا هو الدين، فالدين عندهم ليس في اللحية، أو في مسواك، أو في قميص قصير، فأصبح كل الناس يتكلمون في الدين: الدين كذا وكذا، وهذا حلال وهذا حرام، مع أن الحنفيات عندما تعطب ولا ينزل منها الماء، لا يأتون إلا بالسمكري، ولا يمكن أن يأتوا بغيره كرجل ميكانيكي مثلاً، لكن الدين تجد أي شخص يتكلم فيه، ثم تقول العامة: هذا هو عالم الدين.
فلذلك ضعنا وضيعنا؛ لأننا لم نعرف موازين الناس وأقدارهم، ولم نعرف الطريق الصحيح الذي نصل به إلى رب العالمين.
ونسأل الله جل وعلا أن يشكر لكل ساع مجاهد سعيه وجهاده، لكن ما أحوجنا لذكر مسألة الراهب، فبعد أن علم الراهب الغلام وجد أن الغلام فاقه، فقال له: صرت الآن خيراً مني، أي: أنت الآن مقدم علي، فقدمه ليدعو إلى أبواب الخير وينشر دعوة الله، أي: لما أخلص الراهب كان هذا الغلام في ميزان حسناته، والغلام أدى ما عليه، فنشر دعوة الله جل وعلا، وقتل بعد دعوته الناس لتوحيد الله جل وعلا، فما أحوجنا إلى من يقول ذلك، أي: يقول: لست أنا، بل فلان الفلاني اذهبوا إليه لتعلموا دينكم، فلا أحد يقول هذا الآن إلا من رحم ربك، فادع الله ليل نهار: اللهم ارزقني رجلاً يسلك بي الطريق الصحيح، ويعلمني العلم النافع الذي يرسخ في قلبي فلا أسأل بعده أبداً، نسأل الله ذلك.
وليس عزيزاً على ربنا جل وعلا أن يجعلك في سنة طالب علم جيد، قد أتقنت العقيدة والمصطلح والأصول والفقه.
وتأمل كفار قريش كيف عرفوا المراد منهم في القرآن لما فقهوا اللغة العربية فقالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:٥] قالوا ذلك لأنهم علموا أن لا إله إلا الله، لها قيود ولوازم.
والصحابة كانوا يحرصون أيما حرص على التعلم من النبي صلى الله عليه وسلم، فأروى الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم هو أبو هريرة ثم عبد الله بن عمرو بن العاص، لكن عبد الله بن عمر كان يكتب، نفسه، وأبو هريرة كان يحفظ في صدره فقال قائل: أكثر علينا أبو هريرة، فقال أبو هريرة: إن إخواننا الأنصار شغلهم الزرع، وإخواننا المهاجرون شغلهم الصفق -الذي هو التجارة- وكان أبو هريرة يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على شبع بطنه، فيقول: وكنت أجوع ومن شدة الجوع يغشى علي، فيحسبون أن بي جنون وليس بي إلا الجوع، وقد مكثت مع رسول الله لأحفظ حديثه عليه الصلاة والسلام.
فكانوا أي: الصحابة حتى المشغول منهم بالتجارة، لا يشبه الذي نحن عليه الآن، نحن الآن ماذا يشغلنا؟ تشغلنا الآلة الحاسبة، والدرهم الذي ذهب، والدرهم الذي جاء، والعمل الذي نمضي فيه الساعات الطوال، والعلم الذي نحصل عليه هو ما نحصله من كلام الخطيب يوم الجمعة، أو ما نحصل عليه من كلام رجل يكلمنا عن الحب والعطف والحنان والشوق، فنقول: دعنا نسمع هذه الكلمات كي ترقق قلوبنا وانتهى الأمر.
ولو قلت: لن أضيع وقتي، بل نصف ساعة أجلس فيها مجلس علم، أحضر البركة، ولا يفقدني الله جل وعلا، وتصعد الملائكة باسمي، فيثني الله علي في الملأ الأعلى، وأتعلم مسألة أعمل بها، لكنت جهبذاً من جهابذة العلم إن شاء الله.
وانظر إلى عمر بن الخطاب عندما شغله الكسب ماذا عمل؟ قال لأخيه من الأنصار: تنزل يوماً فتتعلم من رسول الله فتعطيني ما تعلمته، وأنزل اليوم الثاني إلى النبي صلى الله عليه وسلم وتعمل أنت، فأعلمك ما قاله رسول الله.
كانت أمي دائماً -رحمة الله عليها وعلى أبي- لما أن ترى معي كتاب الأم للشافعي تقول: يا بني! اتق الله في نفسك، وذاكر كتب الجامعة، أليس النبي صلى الله عليه وسلم جاءه رجل فقال: (إن أخي يجلس معك ليل نهار وأنا أعمل من أجل أنفق عليه فقال للطالب: أخوك أفضل منك).
يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليس طالب العلم هو الأفضل، بل قال: أخوك الذي يعمل أفضل منك، قلت لها: أبعدت النجعة، فقد استدللت بحديث موضوع، وسأصحح لكي المفاهيم، بحديث صحيح: جاء رجل يشتكي للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! إني أعمل وأكد لأخي وهو يجلس عندك في المجلس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعه لعلك ترزق به)، انظر ماذا قال له، ولم يقل له: إنه أفضل منك فقط، بل قال له: الخير الذي يأتيك هو بسببه، أي: بسبب أنه يجلس ويتعلم على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلو فرغ المسلم نصف ساعة من وقته لحضور درس علمي يتعلم فيه مسألة جديدة ليعمل بها، أو يتعلم أمراً يرفعه الله به، والله ليصبح بعد عام رجلاً عنده كم علمي مبارك، ولا يقوى أحد أن يعمي عليه المسائل.
والفرق بيننا وبينهم أنهم لم يأخذوا العلم جملة لكي يضيع منهم جملة، فالصحابة تعلموا العلم ليعملوا، ولذلك جاء بسند صحيح في شعب الإيمان عن ابن عمر أنه قال: تعلمنا الإيمان.
أي: أول شي تعلمناه الإيمان حتى نطبقه، ثم تعلمنا القرآن، فنزل نور القرآن على نور الإيمان، فأصبح نوراً على نور.
فالنور الذي على نور هذا لمن علم وعمل، ولذلك كان