[الإرهاصات قبل حادثة مقتل عثمان]
بعد الست السنين الأولى حدثت الشائعات والفتن، وظهر المغرضون والمفتونون والمأثومون الذين أرادوا قتل عثمان، وحسدوا وحقدوا هذه الأمة الإسلامية، وأرادوا هدم عروش هذه الأمة التي دانت لها الدنيا بأسرها، فبدءوا يشعلون نيران الفتنة، فأتوا بشبه على عثمان حتى يرتقوا إلى خلع عثمان أو قتله وهذه الشبه هي: شبه في شخصية عثمان، ثم شبه دينية، ثم شبه سياسية في التعامل والإدارة، ثم شبه في التعامل مع الأفراد والأسرى، وأنا ألخص ما قاله ابن تيمية فـ عثمان غير معصوم، هذا الأصل، فإذا أخطأ أخطأ وهو غير معصوم لكن عثمان سبق الناس لفضله، وعثمان هو ذو النورين الذي تستحيي منه الملائكة، وعثمان رضي الله عنه وأرضاه ولو وقع في الخطأ لضاع هذا الخطأ في بحر حسنات عثمان رضي الله عنه وأرضاه.
عبد الله بن سبأ اليهودي الخبيث اللعين دخل في الصف المسلم ليكون طابوراً خامساً من المنافقين ويشعل نار الفتنة، فـ عبد الله بن سبأ هو الذي خرب عقائد المسلمين، فقد جاء لهم فقال: المسلمون عندهم في أبواب الفقه القياس الجلي أو قياس الأولى وقياس العلة، فقياس الأولى عنده يقول: إذا أقررتم أنتم برجوع عيسى عليه السلام ومحمد أفضل من عيسى فمن باب أولى أن يرجع محمد صلى الله عليه وسلم، يريد بذلك أن يخرب عليهم عقولهم، وأقرب الناس إلى هذه الفتن هم الشيعة الرافضة عليهم من الله ما يستحقون، فهم الذين أسقطوا الخلافة العباسية، وما من طامة كبرى نزلت على المسلمين إلا بسبب الشيعة، فأي خراب وأي دمار وأي هزيمة نكراء لا تأتي إلا من قبل الشيعة، حتى قام قائمهم يضرب حجر الكعبة ويأخذه ويقول: أين الحجارة من سجيل؟ أين الطير الأبابيل؟ متجاسراً على ربه جل وعلا.
فالشيعة الباطنية أكفر ما يكونون، حتى المعتدلون منهم يقولون: ما عليك أن تأخذ اللقطة من سني أو من كافر، وإذا كانوا يعملون في الدوائر الحكومية فإذا خرج المسلمون نهبوا المكان، فهم يستحلون هذا المال غنيمة عندهم؛ لأن هؤلاء كفرة، فأهل السنة والجماعة أكفر أهل الأرض عند الشيعة، وهم الذين أشعلوا مع عبد الله بن سبأ الخبيث الفتنة، وألقوا بالشبهة الأولى الشخصية على عثمان فقالوا: إن عثمان ليس له فضل، فهو لم يشهد بدراً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: افعلوا ما شئتم فقد غفرت لكم).
الشبهة الثانية في شخصية عثمان رضي الله عنه وأرضاه: أنه فر يوم أحد، ولم يقف في المعركة.
الثالثة: إنه لم يحضر بيعة الرضوان، والله جل وعلا أنزل تعديله لأهل بيعة الرضوان، ولأهل بدر فلم يحضر بدر، ولا بيعة الرضوان، وفر يوم أحد، وكفى بهذا.
وقد كفانا مئونة الرد عبد الله بن عمر رضي الله عنه وأرضاه لما دخل عليه المصري عليه من الله ما يستحق يتنطع ويقول: يا ابن عمر! أما رأيت أن عثمان فر يوم أحد؟ قال: اللهم نعم.
قال: أما تقر أنه لم يحضر؟ قال: اللهم نعم.
قال: أما رأيت أنه لم يحضر بيعة الرضوان؟ قال: اللهم نعم.
فقال الخبيث: الله أكبر، فقام عبد الله بن عمر وقال: مهلاً! أما بدر فإن عثمان بن عفان قام يمرض بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وضرب له النبي صلى الله عليه وسلم سهماً في غزوة بدر فكان أفضل ممن حضر بدراً؛ لأنه قام بأمرين: قام بأمر رسول الله أن يمكث مع بنته، وقام بالأمر الثاني يمرض بنت رسول الله حتى دفنها، وضرب النبي صلى الله عليه وسلم له بسهم في غزوة بدر.
أما قولك: قد فر في أحد، فقد أنزل الله عدالته ومغفرته له من السماء السابعة حيث قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [آل عمران:١٥٥]، ووجه الشاهد قوله تعالى: ((وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ)) فهذا تنصيص بأن الله عفا عمن فر يوم أحد، وقد فر كثير من الأفاضل والأكارم كـ سعد بن معاذ وغيره في هذه، وكان له تأويل إذ إنه أبيح لهم أن يفر المسلم من عشرة، وهم كانوا كثيراً، والله جل وعلا أنزل غفرانه لهم في كتابه فقال: ((وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ)).
أما الثالثة فهي لـ عثمان وليست عليه، قال له: أما إن النبي صلى الله عليه وسلم قد اختاره سفيراً له، ثم جاء في بيعة الرضوان قال: وهذه يدي اليمنى واليمنى أفضل من اليسرى، هذه يد عثمان فطبق بها وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم له، وكأن اليد اليمنى يد عثمان رضي الله عنه وأرضاه، قال ابن عمر: خذها وارحل.
فكفانا مئونة الرد على هذه الشبهة المتهافتة، وكلها شبه متهاوية ضعيفة جداً.
أما الشبه الثانية فهي شبه دينية، قالوا: قد أحدث في الدين ما لم يفعله أبو بكر وعمر.
فأول ذلك الأذان فقد جعل أذانين، وفي عهد النبي صلى الله عليه وسلم أذان واحد في الجمعة، وكذا فعل أبو بكر وعمر، فهو جعل أذانين، والأذان من العبادات التي لا يجوز الزيادة والنقص فيها.
والشبهة الثانية الدينية قالوا: أتم في منى، وقد قصر النبي صلى الله عليه وسلم في منى وأبو بكر وعمر، وعثمان صدراً من خلافاته، ثم أتم.
قالوا: الثالثة أنه أحرق المصاحف كلها وجمعها على مصحف واحد.
والجواب عن الشبهة: أنه قد كثر الناس في عهد عمر بن الخطاب، وكثرت الفتوحات في عصر عمر، وأيضاً لا يشكل علينا أن عمر لم يفعله إذ إن هذا اجتهاد، وعثمان كان يرى أن الناس ضيعوا شريعة النبي صلى الله عليه وسلم، فكان هذا من المصلحة، وقد تفرق الصحابة في الأمصار والعلم ينحصر في الصحابة، والناس ضيعوا قول الله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:٩]، ولذلك الخلاف مشهور بين الفقهاء هل البيع صحيح إذا وقع بعد الأذان الثاني أم غير صحيح؟ مع الاتفاق على أن البائع والمشتري آثمان إذا عرفا الحكم، فقال: نجعل مؤذناً في الزوراء يدعوهم ويبين لهم أن الوقت قد اقترب فكل بائع وكل تاجر يترك تجارته ويجهز نفسه حتى يذهب إلى الصلاة، وهو تعلم من إنكار عمر عليه؛ لأنه كان في السوق ذات مرة يبيع ويشتري فسمع الأذان فذهب فتوضأ ودخل إلى المسجد وعمر لا يسكت عن أمر يتخلف عنه فاضل كـ عثمان بن عفان وهو في الخطبة، فقطع الخطبة ثم قال: ما بال أقوام يأتوننا بعد قيام الخطيب أو بعد الأذان؟ فقال عثمان: والله! يا أمير المؤمنين! ما زدت على أن توضأت وجئت.
يعني: سمعت الأذان في السوق فما هو إلا أن توضأت وجئت.
قال: والوضوء أيضاً! يعني الوضوء فقط وأنت تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم يبين أن الغسل أفضل فتترك هذه الفضيلة أيضاً، وهذا الذي احتج به العلماء على أن غسل الجمعة سنة؛ لأنه لو كان فرضاً ما تركه عمر، فـ عمر أنكر عليه في الفضيلة فألا ينكر عليه في الواجب؟ فلما علم ذلك عثمان وتعلم الدرس جعل مؤذناً يذكر الناس بأن يتركوا الصفق والبيع والشراء في الأسواق ويأتون إلى صلاة الجمعة.
والإجابة الثانية: أن هذه تقيد شرعاً أنها من المصالح المرسلة.
والإجابة الثالثة: أنها سنة متبعة؛ لأن عثمان له سنة مستقلة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ).
وهذه سنة متبعة وليست بدعة.
أما الشبهة الثانية وهي مسألة الإتمام في منى فقد كفانا الرد علي بن أبي طالب لما سألوه عن ذلك فقال: كان عثمان قد تأهل بمكة يعني عنده أهل في مكة، وأيضاً عنده بيوت هناك، فقال: كان عثمان قد تأهل في مكة فأراد أن يتم لأنه تأهل، لأن عنده القصر يكون للسفر لا للنسك، فهو غير مسافر الآن، وهو من أهل مكة فعليه أن يتم، وهذا الذي اعتذر به ابن القيم وغيره لـ عثمان؛ لأنه لم يتم، حتى إن ابن مسعود وافقه في هذا.
وإن قلنا: إنه خالف أبا بكر وخالف عمر فقد ترك الأولى أو ترك السنة لكنه غير مبتدع؛ لأن للمسافر أن يتم وأن يقصر، والقصر أولى، لكن إن أتم فلا إنكار عليه.
أما الثالثة في جمع القرآن فنقول: هي فضيلة له، فهو لم يبتدع فقد جمع أبو بكر، وجمع عمر، وجمع هو القرآن على كتاب واحد.
تبقى مسألة الشبهات التي أوردوها عليه في التعامل مع أفاضل الصحابة مع ابن مسعود، ومع أبي ذر، ومع عمار بن ياسر.
أما أبو ذر رضي الله عنه وأرضاه فقد كان له منهج فيه تشديد يمكن أن يحتمله الصحابة لكن بعض الصحابة يمكن ألا يحتمل هذا، فكان أبو ذر -وهو من أزهد الناس وأصدقهم لهجة- مذهبه أن أي مال اكتنزه المرء زائداً عن النصاب لا يجوز أن يحتفظ به، بل لا بد أن يتصدق به، فمثلاً لو أن رجلاً عنده أربعة آلاف وزكى حين بلغ النصاب فلو بقي معه مال زائد عن حاجته في يومه ذلك وجب عليه إخراجه وإن لم يخرجه أثم بذلك! فشق ذلك على بعض الصحابة وبعض التابعين فراجعوا عثمان فراجع عثمان أبا ذر فلم يرجع أبو ذر وقال: