للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[معنى قوله تعالى: (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم)]

يوجد إشكال لابد من الإجابة عنه: قال الله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:٣١]، (حتى نعلم)، حتى في هذه الآية للغاية، فالله جل وعلا يبتلى الناس ليميز بين المجاهد والصابر وبين المنافق، وقال الله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا} [آل عمران:١٦٧]، {وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:١٦٦] وقال الله تعالى: ((الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:١ - ٢]، ثم قال: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:٣] وقد ذكرنا أن الله يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف سيكون، وأحاط بكل شيء علماً، فكيف يقول الله في كتابه الكريم: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}، ويقول: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:٣١] {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا} [آل عمران:١٦٧]؟ الإجابة عن هذا الإشكال هو أن الله جل وعلا علم ذلك وكتبه في اللوح المحفوظ، لكن لابد أن يخرجه لأرض الواقع، ولابد أن يقطع دابر حجة الظالمين-، وتقدير الكلام: حتى نعلم علماً نحاسبكم عليه؛ لأن الله لو جاء بالعبد فحاسبه على علمه السابق دون أن ينزله إلى أرض البسيطة وقال للعبد: أنا علمت سابقاً أنك ستعمل كذا وكذا وكذا وسأحاسبك عليه اليوم، فهو سيقول: لا يا رب! لو أنزلتني إلى الأرض لسمعت وأطعت الرسل، فكيف تحاسبني على علمك السابق لي؟! إذاً: الإشكال يجاب عنه بجواب هين جداً ألا وهو: أن الله جل وعلا لما علم سابقاً أخرج هذا العلم على أرض الواقع ليحاسب الناس ويقطع حجتهم.

أقول: علم الله سابق لأفعال العباد، وقد كتب ذلك، وقد فرغ ربكم من العباد، فأصحاب الجنة في الجنة وأصحاب النار في النار، أما قول الله تعالى: {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ} [محمد:٣١]، {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:٣]، فهذا العلم ليس علماً مستجداً لله جل وعلا، لكن العلم فيه بالنظر إلى العباد، وهذا العلم يسمى علم محاسبة، وعلم إخراج إلى أرض الواقع؛ حتى يقطع دابر الحجة التي يحتج بها العبد على الله جل وعلا، ولذلك الله جل وعلا في سورة طه قال: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [طه:١٣٤]، فلا حجة للعباد أمام الله جل وعلا؛ ولذلك الله جل وعلا قال في الرسل: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:١٦٥].