للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

حكم الساحر إذا كان مسلماً ثم تعلم السحر

اتفق العلماء على أن الساحر الذي يستخدم في سحره الشياطين، ويستخدم الكفر فإنه يكفر بالسحر، فإذا كان يسجد للشيطان، ويستعمل الشيطان في العقد والنفث، فهذا حكمه بالاتفاق القتل، فتضرب عنقه.

واختلفوا في الذي يأتي بسحر التلبيس والتدليس، أو يأتي بأشياء يسرق بها أعين الناس، فالجمهور على أنه أيضاً يقتل، وستأتي أدلتهم، وقال الشافعية: لا يقتل بل يعزر، واستدلوا على ذلك بحديث عائشة رضي الله عنها وأرضاها أنها كانت لها جارية سحرتها فلم تقتلها، وباعتها، فـ عائشة رضي الله عنها وأرضاها الفقيهة أم المؤمنين لم تقتل الساحرة، وهذا دليل على أن الساحر الذي يأتي بسحر التخييل -وإن كان فيه بعض الإيذاء للناس- لا يقتل.

والصحيح الراجح في ذلك قول الجمهور: أنه يقتل، لكن ضابط المسألة: أن الذي يأتي بالسحر الذي هو كفري فإنه يقتل ردة لا حداً؛ لأنه كافر خارج من الملة، فيخلد في نار جهنم، وأما الساحر الذي يأتي بالسحر الآخر فهذا حده أيضاً الضرب بالسيف؛ للعمومات التي سأذكرها، فيضرب بالسيف حداً لا ردة.

والفرق بين الحد والردة أن الذي يقتل حداً ما زال مسلماً، فهذا الحد يطهره، ولا يسأل عن فعله ذلك يوم القيامة، وأما الردة فصاحبها خالد مخلد في نار جهنم، والأدلة على ذلك كثيرة منها: أولاً: حديث جندب رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: حد الساحر ضربة بالسيف، وقد رواها جندب قولاً ثم فعلها فعلاً، فقد جلس أحد الأمراء وهو الوليد وبين يديه رجل ساحر يستخدم الجن، والناس ينظرون، فيقطع الساحر رقبته فتتدحرج على الأرض، فيأخذها ثم يردها مكانها مرة ثانية، ويضحك الوليد ويضحك الناس أمامه، فجاء جندب رضي الله عنه وأرضاه الفقيه الصحابي الجليل من بعيد فرأى الرأس تتدحرج ثم ترجع مكانها، فعلم أن هذا من فعل الشياطين ومن سحر الجان، فاستل سيفه فذهب إلى الساحر فأطاح برأسه وقال له: أعد رأسك الآن، فغضب الوليد من فعله فحبسه، فلما ذكر هذا أمام سلمان رضي الله عنه وأرضاه قال سلمان رضي الله عنه وأرضاه: أخطأ الوليد؛ لأنه لا يصح له أن يحبس الصحابي، فكل التابعين في ميزان هذا الصحابي، وما وصل الدين إلا عن طريق هؤلاء الصحابة، ثم الوليد أخطأ عندما جعل الساحر يلبس على الناس بسحره.

قال: وأخطأ جندب لأنه افتأت على ولي الأمر، إذ إن إقامة الحدود لا تكون إلا لولي الأمر والوكيل عنه، فلما فعل ذلك جندب من غير استئذان ولي الأمر كان هذا خطأ منه، ولكن لا يمكن أن يحبس هذا الصحابي ولا أن يعزر، بل ينصح في ذلك.

فهذا دليل قوي جداً على ضرب الساحر دون استفتاء، وأقر سلمان ذلك.

ثانياً: جاء في مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه قال: اقتلوا كل ساحر وساحرة، وسنده صحيح، فقاموا وقتلوا ثلاث سواحر.

ثالثاً: عن حفصة رضي الله عنها وأرضاها أنها كانت لها جارية سحرتها، فأمرت بقتلها فقتلت، وهذا دليل ثالث يدل على أن الساحر يقتل، وهذا بعمومه يدخل فيه النوع الأول والنوع الثاني.

الدليل الرابع: استنباطاً ونظراً، قال الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة:٣٣] إلى آخر الآية، والذي يستخدم السحر ويستخدم الشياطين، أو الذي يؤذي الناس بسحره، فهذا من المفسدين في الأرض، فيدخل تحت عموم الآية: {يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} [المائدة:٣٣] إلى آخر الآية؛ لأنه سعى في الأرض فساداً.

وهذه الأدلة الأربعة تدل دلالة واضحة على أن حد الساحر القتل.

واستدل الشافعي على قوله بأن عائشة رضي الله عنها سحرتها امرأة فلم تقتلها بل باعتها.

فنقول: إن الحجة في قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله لا في قول الصحابي وفعله؛ فقول الصحابي وفعله حجة إذا لم يخالفه أحد من الصحابة فكيف إذا خالفت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم؟ فالحجة في قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله، وإن لم يأت حديث النبي صلى الله عليه وسلم فإن عائشة قد خالفها بعض الصحابة كـ حفصة وعمر وجندب رضي الله عنهم وأرضاهم، وإذا اختلف الصحابة فلا حجة في قول أحدهم على الآخر، فالصحيح أن حد الساحر ضربة بالسيف، فيقتل إن كان السحر من النوع الثاني حداً، وإن كان من النوع الأول فإنه يقتل ردة.