[صفة العلو]
قال الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} طه ٥]، دلت هذه الآية على صفة من أهم الصفات وهي صفة العلو لله جل وعلا، والعلو علوان: علو مطلق، وعلو مقيد.
العلو المطلق: هو علو الشأن وعلو الذات، وعلو القهر، وعلو القدر والمكانة، وهو من الصفات الذاتية التي لا تنفك عن الله.
والعلو المقيد: هو علو الاستواء على العرش، فهذا علو مقيد بالعرش، وهو صفة فعلية وليست صفة ذاتية، لأنها تتعلق بمشيئة الله جل وعلا، إن شاء استوى، وإن شاء لم يستو.
أما العلو المطلق فإن الله جل وعلا اتصف بعلو الذات، وعلو الشأن وعلو القهر، علو الشأن أي: علو المكانة، والقدر والتعظيم، هذا لم يختلف فيه أحد، قال الله تعالى: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ} [غافر:١٥] سبحانه وتعالى، له الكمال المطلق، والجلال المطلق، والعظمة المطلقة، وقد أنكر على أهل الكفر والإلحاد أنهم ما عظموه حق عظمته، ولا قدروه حق قدره، قال الله تعالى: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح:١٣]، أي: تعظيماً وإجلالاً، وقال جل وعلا: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:٩١].
أما العلو الثاني من أنواع العلو المطلق فهو علو القهر وعلو الربوبية، وهذا أيضاً لم يختلف فيه أحد، فالله جل وعلا قهر عباده، وكل العباد تحت أمره، لا راد لأمره ولا لقضائه، قال الله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:٤٠]، وقال سبحانه: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:٩٣] تحت قهر الله جل وعلا، وقال الله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:١٨] فهذا علو القهر أيضاً لم يختلف فيه أحد.
أما علو الذات فحدث فيه الخلاف، ومعناه: أن الله عال بذاته على خلقه، وقد دل على ذلك أكثر من دليل من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة، كما دل على ذلك العقل والفطرة.
أما الدليل من الكتاب فقول الله تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:٢٣]، وقال: {الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [الرعد:٩]، والقاعدة أن كل اسم من أسماء الله الحسنى يتضمن صفة من صفات الكمال، فاسم الله العلي اسم من أسماء الله الحسنى يتضمن صفة العلو، فهذه أول دلالة من دلالات أسماء الله في القرآن تثبت علو الله جل وعلا.
الدلالة الثانية التي تدل على العلو: الدلالة المقيدة العلو على العرش، قال الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} طه ٥].
وقال جل وعلا: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:٥٤].
وقال سبحانه: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:٥٤] والاستواء يأتي في اللغة بمعاني فيتعدى بنفسه ويتعدى بإلى ويتعدى بعلى، ولكل معنى سنبينه عند شرح الآية.
أيضاً: من الدلالات على علو الله عز وجل: دلالة الفوقية، وتكون من لفظ العلو، قال الله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:١٨] فهذه دالة على علو الله جل وعلا، وقال الله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل:٥٠] فالملائكة فوقهم العرش، وفوق العرش الله جل وعلا، فدلالة الفوقية تدل على علو الله جل وعلا.
ومن الدلالات أيضاً: التصريح بالعندية، قال الله تعالى: {وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ} [الأنبياء:١٩] العندية هنا: فوق؛ لأن الملائكة في السموات، فعندية الله جل وعلا فوق السموات.
أيضاً: من الدلالات على علو الله على خلقه: الصعود، فالصعود يكون من أسفل إلى أعلى، قال الله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ} [فاطر:١٠] من أسفل إلى أعلى، {يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:١٠] فالصعود والرفعة والعروج كل ذلك يدل على علو الله جل وعلا.
وقال الله تعالى عن عيسى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء:١٥٨]، وقال جل وعلا في سورة آل عمران: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ * إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران:٥٤ - ٥٥] يعني: من السفول إلى العلو ورافعك من الأرض إلى السماء.
وقال جل وعلا: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ} [المعارج:١ - ٣] ثم فصل المعارج، فقال: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج:٤] أي: تصعد.
أيضاً: من الدلالة على علو الله: عكس الصعود، وهو النزول، لأن النزول يكون من أعلى إلى أسفل، قال الله تعالى: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} [هود:١٤] أنزل أي: من أعلا إلى أسفل وقال الله تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ} [الشعراء:١٩٢ - ١٩٤]، فالتنزيل يكون من أعلى إلى أسفل.
أيضاً: من الدلالات على علو الله: (في) قال الله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} [الملك:١٦] ففي هنا تعني: الله جل وعلا في السماء، والسماء لا تظله ولا تقله، بل كل السموات والعرش تحته جل وعلا فلا بد من تأويل: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:١٦] على ذلك، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: هذه الآية على معنيين: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:١٦] أي: أأمنتم من في العلو، فالسماء هنا بمعنى: العلو، واستدل على ذلك بقول الله تعالى: {وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [النمل:٦٠] فالمطر ينزل من السحاب، وسماه الله سماءً من السمو وهو العلو، فالسماء هنا بمعنى: العلو، {وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [النمل:٦٠] أي: من المزن وهو في العلو، إذاً: فهنا قول الله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:١٦] معناه: أأمنتم من في العلو.
المعنى الثاني: أن في بمعنى على ولها مسوغ في اللغة، فهناك قرائن تدل على أن في تأتي في اللغة بمعنى على، قال الله تعالى: {فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ} [آل عمران:١٣٧] أي: على الأرض، وليس معنى ذلك أن يشقوا الأرض ويسيروا في داخلها، وقال تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} [الملك:١٥] أي: على مناكبها، وقال الله تعالى حاكياً عن فرعون: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} طه ٧١] أي: على جذوع النخل، هذه الأدلة من الكتاب.
أما الأدلة من السنة فقد قال ابن القيم: إنها وصلت إلى خمسين حديثاً كلها تدل على علو الله جل وعلا.