للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[كل ميسر لما خلق له]

إن المرء إذا اعتقد بربه أنه قدر وكتب كل شيء قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف سنة، فإنه يكون له في ذلك عينان، عين ينظر بها للقدر، وعين ينظر بها للشرع، وهما متلازمتان، فإن عين القدر إيمان بربوبية الله جل وعلا، وعين الشرع إيمان بإلهية الله جل وعلا، فالمرء دائر بين القدر الكوني وبين الأمر الشرعي.

السؤال هنا: هل إذا علمت أن الله قد كتبك أو قدر عليك أنك من أهل الجنة أو من أهل النار قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف سنة، هل هذا يجعل المرء يتقاعس عن عبادة الله جل وعلا، أم يجعل المرء يشتد ويجتهد في عبادته سبحانه؟ والجواب أنه قد دار ذلك في رأس أحد الصحابة، وذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسأله: هل أمر انتهى وكتب أم أمر مستقبل؟ فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (أمر قد انتهى فقال: ففيم العمل)، فأوجز النبي صلى الله عليه وسلم له بكلمات من أجمع الكلمات وأوسعها في باب القدر، و (اعملوا فكل ميسر لما خلق له) قد انتهى الأمر، وكتب الله أهل الجنة وكتب أهل النار، وفي الحديث أنه: (مسح على ظهر آدم، فأخذ بكفيه أو أخذ ذريته فقلبهما في كفيه، وقال هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي، وهؤلاء إلى النار ولا أبالي).

ففي هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قام، وخرج على الناس بكتابين، وقال: (فرغ ربكم من العباد، هذا كتاب بأهل الجنة بأسمائهم وأسماء أبائهم وذرياتهم، ثم أجمل لا يزاد فيه ولا ينقص، وهذا كتاب بأهل النار بأسمائهم وأسماء آبائهم وذرياتهم، وأجمل عليه، لا يزاد فيه ولا ينقص، فرغ ربكم من العباد.

فقال رجل: يا رسول الله ففيم العمل؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اعملوا فكل ميسر لما خلق له).

وهذه فيها بشارة ونذارة وإجمال، وفيها النظر بعين القدر وعين الشرع بكلمات وجيزة، منه صلى الله عليه وسلم حيث بين أنه لا يتعارض قدر كوني مع أمر شرعي فالإيمان بالقدر إيمان بربوبية الله؛ لأن القدر هو قدرة الله جل وعلا، وهو صفة من صفات الربوبية، والإيمان بالأمر والنهي والمسارعة في الأمر إيمان بتوحيد الإلهية، ولا يستقيم توحيد المؤمن لله جل وعلا إلا بتوحيد الربوبية والإيمان بالقدر، وتوحيد الإلهية.

وفي هذا الحديث بشر النبي صلى الله عليه وسلم أهل الخير الذين يسارعون في الخيرات بالخير، كالذين وسع الله جل وعلا عليهم في المال فهم ليل نهار يسلطونه على هلكته في الحق فهؤلاء يستبشرون خيراً؛ لأن الله تعالى بالظن الغالب قد يسرهم لما خلقهم له، فخلقهم ليكونوا عباداً متصدقين منفقين لله جل وعلا، ويسر للبعض الجلوس في مجالس العلم، فيتعلمون ويعملون حتى يرتقوا عنده سبحانه (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين).

فاعلم أن الله جل وعلا اصطفاك له، وكتبك قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف سنة ممن يسارع في الخيرات، فاستبشر خيراً، وإذا وجدت نفسك قد فتح لك باب من أبواب الجهاد أو من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكنت في كل ساعات حياتك تعيش في ذكر الله أو استغفار أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر فإنك ممن قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل ميسر لما خلق له)، أي أنك خلقت لهذا العمل، وخلقت للدين، كما قيل في شيخ الإسلام ابن تيمية: خلق الله هذا الرجل لدينه، فلا يعرف شيئاً إلا الدين، ولا يعرف شيئاً إلا لله جل وعلا، وكما قال الله لموسى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه:٤١]، أي: اصطفاه الله جل وعلا، واصطنعه لنفسه ولدينه فقط.

وفي هذا الحديث أيضًا إنذار لأهل الفساد والغي والضلال، فالعبد الذي تغلق عليه أبواب الخير ولا تفتح له إلا أبواب الغي والضلال والزنا والفاحشة والكذب والغيبة والنميمة والبخل فهذا إنذار من النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: (كل ميسر لما خلق له)، فلعله ما خلق إلا للنار والعياذ بالله.