[علم الله محيط بكل شيء]
علم الله جل وعلا واسع شاسع، يحيط بكل شيء علماً، {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:١١٠]، {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [آل عمران:٢٩] ما دق وما خفي، {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:١٩]، يعلم جل وعلا كل شيء ولا يخفى عليه أي شيء: دق أو جل، عظم أو صغر؛ لأن الله جل وعلا أحاط بكل شيء علماً، قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق:١٢]، وعلم الله الواسع جل وعلا يتمثل في أنه عَلِمَ ما كان، وعلم ما يكون، وعلم ما لم يكن لو كان كيف سيكون.
علم ما كان: فالله جل وعلا يعلم ما سبق، وقد قص علينا بعلمه ما كان من قصص، وأيد نبيه صلى الله عليه وسلم بهذه المعجزة وهي: أن يقص على أهل الكفر وأهل قريش ومن يدعوهم إلى الإسلام القصص السابقة، وهي وحي من الله جل وعلا يدل على علم الله السابق، فقص الله علينا خلق آدم، وأول الخلق، وأنه أمر الملائكة بالسجود له، وأنه أمر إبليس ولكنه أبى: {أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:٣٤]، فأنزل إبليس من الجنة وأنزل آدم منها أيضاً.
وقص علينا من قصة نوح عليه السلام عندما أوحى إليه أن يعمل السفينة {أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} [المؤمنون:٢٧] {وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} [المؤمنون:٢٧]، وأيضاً قص علينا أنه أنجاه ومن معه في الفلك وأغرق الباقين.
وقص الله علينا جل وعلا خبر ضيف إبراهيم المكرمين، وأن إبراهيم بشر بغلام حليم، وبشر بعده بغلام آخر عليم، وقص الله علينا قصص كل من سبق، فهذه دلالة على علم الله بما كان، والله جل وعلا قصها على النبي وجعلها عبرة ليعتبر بها، وهدى ليهتدي بها، ومعجزة وآية له حتى يبين أنه ما أتى بهذا الكلام من عنده وأنه ليس أساطير الأولين، بل هو وحي من الله جل وعلا.
وعلم ما يكون مستقبلاً، فالله جل وعلا علم ما يكون وقصه وأوحاه إلى نبيه، ومنه ما تحقق بعدما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في عصره، ومنه ما تحقق في عصرنا هذا، ومنه ما ننتظر أن يتحقق.
أما النوع الأول وهو ما تحقق: قال الله تعالى: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا} [الفتح:١١] وحدث ذلك وتحقق، وكذلك وهم في مكة في أشد ما يكونون، أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم ما يكون: ((الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم:١ - ٣]، وتحقق وحدث كما قال الله تعالى، أيضاً أوحى الله إليه أنه سيدخل المسجد الحرام، وأنه سيدخل فاتحاً مكة، وتحقق قال تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح:٢٧].
وأوحى إليه أشياء لم تحدث في عصره وحدثت بعد ذلك مثل النار التي بين أنها من أمارات الساعة وخرجت كما قال الإمام النووي، قص علينا من الأمارات ما نراها عياناً كما في مسند الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بين يدي الساعة سنون خداعة، يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن الخائن ويخون الأمين، وينطق الرويبضة، قالوا: يا رسول الله! وما الرويبضة؟ قال: الفاسق أو قال: الفويسق يتكلم في أمر العامة)، وقد تحقق ذلك، (وجاء أعرابي فأخذ بخطام الناقة فقال: يا رسول الله! متى الساعة فسكت، ثم قال: من السائل عن الساعة؟ قال: أنا، قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)، وقد تحققت أشياء كثيرة أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم مستقبلاً وهذه متعلقة بحكم ما يكون.
والذي لم يتحقق وننتظر تحققه وهو على مشارف التحقيق قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ستصالحون الروم صلحاً آمنا) الروم أهل الكفر أهل الكتاب النصارى، (ستصالحون الروم صلحاً آمناً فيغدرون، سيأتونكم تحت ثمانين راية، تحت كل راية اثنا عشر ألفاً)، هذه من الأخبار التي في علم الله فيما يكون مستقبلاً قد أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم ونحن الآن ننتظر أن تتحقق أو نحن على مشارف أن تتحقق، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:٢١].
أيضاً: ننتظر ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم: (ينطق الشجر والحجر، فيقول: يا مسلم يا عبد الله! تعال خلفي يهودي فاقتله)، وهذا أيضاً من علم الله بما يكون مستقبلاً وأخبر به، ففيه ما تحقق وفيه الذي لم يتحقق حتى الآن ونحن ننتظر أن يتحقق، وكل ذلك مكتوب وقد فرغ منه، وعلم ما لم يكن لو كان كيف سيكون من الممكنات أو من المستحيلات، من الممكنات كقول الله تعالى مثلاً في أهل الكفر الذين يستمعون الآيات ويستمعون الذكر ويعرضون: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال:٢٢ - ٢٣] هذا لم يحدث، فلو حدث كيف سيكون؟ لا أحد يعلم إلا الله، فقال الله تعالى مبيناً لنا بأنه يعلم ما لم يكن لو كان كيف سيكون قال: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:٢٣].
ومن ذلك أيضاً: خروج الصف المنافق مع الصف المسلم، فإنه يغري بالصف المسلم ويخذل الصف المسلم، قال الله تعالى: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} [التوبة:٤٦ - ٤٧] فعلم الله ذلك، فهم لم يخرجوا، والله جلا وعلا يبين لنا أنه علم ما لم يكن لو كان كيف سيكون، فلو خرجوا ماذا سيكون؟ وكيف التصور؟ وماذا يفعلون في الصف المسلم؟ بين ذلك في قوله: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة:٤٧]، هذه من الممكنات.
أيضاً من الممكنات في عرصات يوم القيامة: عندما يقف أهل الكفر على النار، قال الله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ} [الأنعام:٢٧ - ٢٨]، فلو أعادهم الله إلى الدنيا لن يفعلوا ما قالوا، الله الذي يعلم هذا قد بين لنا ذلك، قال تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:٢٨].
أما المستحيلات التي يعلمها الله جل وعلا لو حدثت مثل قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:٢٢]، فمستحيل أن يكون في الكون أكثر من إله، {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} لفسد الكون، وفساد الكون أيضاً الله جل وعلا صوره لنا، فهو يعلم ما لم يكن لو كان كيف سيكون، قال الله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون:٩١] فهو يعلم ما لم يكن لو كان كيف سيكون، وهذه دلالة على سعة علم الله جل وعلا، فمن سعة علم الله أنه أحاط بكل شيء علماً، علم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف سيكون.