مرجئة الأحناف خالفوا أهل السنة والجماعة في أشياء، ولذلك قال شيخ الإسلام في الفتاوى: الخلاف بين أهل السنة والجماعة وبين مرجئة الأحناف -أي: مرجئة الفقهاء- خلاف صوري لفظي فقط، وليس خلافاً حقيقياً، وقرر ذلك شارح الطحاوية.
وقد جاءت بعض الأحاديث فيها ضعف في ذم المرجئة، منها:(صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب، القدرية والمرجئة)، والراجح أن النزاع بين المرجئة وبين أهل السنة والجماعة نزاع لفظي في نقطتين، وهو نزاع حقيقي خلافاً لشيخ الإسلام ابن تيمية وشارح الطحاوية في نقطتين أيضاً، أما الخلاف اللفظي الصوري بين مرجئة الأحناف وبين أهل السنة والجماعة فهو قولهم: الأعمال ثمرة من ثمرات الإيمان، وقول أهل السنة والجماعة أن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان، والنتيجة واحدة بين الطرفين من جهة أن ثمرة الأعمال للمؤمن تجعله يتفاوت في الدرجات، فمنهم من يكون في الفردوس الأعلى، ومنهم من ينزل عنها، ومنهم من يكون في آخر درجة من درجات الجنة، وهذه دلالة على أن الإيمان يزيد وينقص مع أنهم لا يقولون بهذا القول ولا يصرحون به، لكن النتيجة عندهم أن الإيمان يزيد وينقص، وأن الناس يتفاوتون في ذلك، ولذلك قال الطحاوي: وأهله في أصله سواء، يعني: متساوون، أما في الدرجات فبينهم تفاوت، فمنهم من يرتقي ومنهم من ينزل، وهنا ملحظ لأهل السنة والجماعة وهو أن الناس لا يستوون في أصل الإيمان على الراجح من ذلك، بل هم يتساوون في مطلق الإيمان، أما في أصله فلا، وهناك من أهل السنة والجماعة وهم المالكية يقولون: إن أصل الإيمان لا يزيد، والصحيح الراجح: أنهم أيضاً يتفاوتون في أصل الإيمان، فمنهم من هو أعلم الناس بأسماء الله الحسنى وصفاته العلى؛ يتدبر آيات الله المرئية، وآيات الله الكونية، فهذا يقوي أصل الإيمان، وأيضاً المخبر ليس كالمعاين، ولذلك نستدل على أنهم يتفاوتون في أصل الإيمان بقول إبراهيم لله جل وعلا:{أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}[البقرة:٢٦٠]، لأن عين اليقين تجعل الأصل عنده أدق، والنبي صلى الله عليه وسلم جلس مع أصحابه فقال:(من أعجب الناس أيماناً؟)، أو قال:(من أعرف الخلق إيماناً) فقالوا: يا رسول الله! الملائكة، فقال:(الملائكة عند ربهم يشاهدون) أي: قدرة الله جلا وعلا، والأمر الذي ينزل إليهم، والنهي، والإعطاء والمنع، والإحياء والإماتة، فهذا يزيد في أصل الإيمان، فقالوا: أنت يا رسول الله! فقال: (أنا يأتيني الوحي)، فقالوا: نحن يا رسول الله! فقال: (أنا بينكم أخبركم، أعجب الناس إيماناً -أو- أعجب الخلق إيماناً أناس يأتون بعدي ما تأتيهم إلا صحف فيؤمنون بما فيها!) ومع ذلك لا يقول أحد: إن في آخر الزمان رجل إيمانه أقوى من إيمان أبي بكر، أو إيمانه أقوى من إيمان أدنى الصحابة، ولذلك جاء بعض التابعين فقال لـ ابن مسعود: لو كنا رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم لحملناه فوق أكتافنا وما جعلناه يسير على الأرض، وجعل العلماء الصحابة عدولاً؛ لرؤيتهم النبي صلى الله عليه وسلم، إذ رؤيته لا يعادلها شيء، فرؤية النبي صلى الله عليه وسلم تزيد الإيمان، وسماع النبي صلى الله عليه وسلم والمعجزات التي تحدث أمامهم تجعل الإيمان عندهم أقوى بكثير، وهم في الأصل ليسوا سواء، ويتفاوتون في الجنة، فالإيمان يزيد وينقص.
والخلاف اللفظي الثاني هو في شأن أهل الكبائر، فهم يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب، لكن قالوا: إن الذي فعل الذنب مستحق للعذاب، فهو تحت مشيئة الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، وهذا قول أهل السنة والجماعة، فقد اتفقوا مع أهل السنة والجماعة في المآل واختلفوا في اللفظ، فهم يسمون أهل الكبائر مؤمنين، أما أهل السنة والجماعة فيسمون صاحب الكبيرة مؤمناً بإيمانه فاسقاً بكبيرته، ولا تقول: هو مؤمن فقط، ويمكن أن تنزله من درجة الإيمان إلى درجة الإسلام.
فهاتان نقطتان اتفق أهل السنة والجماعة مع المرجئة فيهما، والخلاف صوري ولفظي بينهم، أما النقطة الحقيقية في الخلاف فهي أنهم حصروا الإيمان والكفر في القلب، وأهل السنة والجماعة يختلفون معهم في ذلك؛ لأن محل الإيمان عندهم القلب والجوارح واللسان، والإيمان عندهم: قول وعمل واعتقاد، أما المرجئة فحصروا الإيمان في القلب.
النقطة الثانية: أنهم حصروا الكفر في التكذيب، وهذا خلاف كبير لأهل السنة والجماعة، إذ إن الكفر عندنا كفر إعراض، لقوله تعالى:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ}[الأحقاف:٣]، وكفر إباء واستكبار، لقوله تعالى:{إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ}[البقرة:٣٤]، وكفر استهزاء، لقوله تعالى:{قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}[التوبة:٦٥ - ٦٦]، فأنواع الكفر كثيرة، وقد عددناها ستة أو سبعة من أنواع الكفر، وهم حصروا الكفر في التكذيب، ونحن نخالفهم في ذلك ونقول: بل الكفر أكثر من التكذيب والاستحلال؛ لأن كل مرجئ يقول: إذا فعل المؤمن ما يكفر به فليس بكافر حتى يستحل بقلبه ما فعل، وأهل السنة يخالفونهم في ذلك فإن الرجل إذا ألقى المصحف في الحشوش قلنا: هذا الفعل فعل كفر، والفاعل ليس بكافر حتى تقام عليه الحجة وتزال عنه الشبه كما فصلنا، فالمقصود أنهم يقولون: إن الذي ألقى المصحف في الحشوش لا يكفر إلا أن يستحل بقلبه، أو يقولون: إن العمل هذا ليس كفراً بذاته، بل هو علامة على الكفر الذي في القلب، وعلامة على التكذيب والاستحلال الذي في القلب، وهذا خلاف ما يعتقده أهل السنة والجماعة؛ لأن من الأعمال ما هو كفر بذاته، وهناك من الأقوال ما هو كفر لذاته، يخرج به الشخص من الملة بعد إقامة الحجة عليه وإزالة الشبهة منه، فهذه هي النقاط التي اختلف فيها أهل السنة والجماعة اختلافاً حقيقياً مع المرجئة.