للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الجمع بين مشيئة الله ومشيئة العبد]

إذا قلنا: إن الله هو الذي خلق فعل العبد، وإن العبد له فعل خاص به، وله اختيار، فكيف نجمع بينهما؟ يعني: إذا صليت أنت الظهر فإن الله خلق فيك وازعاً وإرادة لصلاة الظهر، ثم إنك أنت الذي صليت الظهر، فالفعل ينسب إليك.

والجمع بين هذا وذاك أن الفعل ينسب إلى الله جل وعلا خلقاً وإيجاداً، وينسب إلى العبد فعلاً واكتساباً، بمعنى: أن الله جل وعلا هو الذي خلق فيك إرادة الصلاة، ووفقك لوقت الصلاة، وهيأ لك كل أسباب الصلاة لتصلي، وأنت الذي صليت، فنسبت الصلاة إليك كفعل واكتساب، والله جل وعلا هو الذي خلق ذلك فيك من عدم، وقديماً قالوا: العبد فاعل منفعل.

ومعنى: العبد فاعل أنه هو الذي يتدبر، ويجاهد، ويطلب العلم، ويصلي، ويتزوج، ويزني، ويسرق، ويغتاب، وينم.

ومعنى: العبد منفعل أن الله جل وعلا هو الذي خلق فيه إرادة الصلاة، وطلب العلم، والزكاة، والجهاد، وعلم منه سابقاً عدم حب الهدى، فخلق فيه إرادة الزنا، والسرقة، وفعل الفاحشة، والغيبة، والنميمة، وفتح له هذه الأبواب، وأغلق عليه أبواب الخير كلها.

إذاً: العبد فاعل حقيقة، ومنفعل، أي: خلق الله فيه إرادة هذا الفعل، فالفعل لا ينسب إلى الله على أنه فعله، وإنما أثر من فعله، فالزنا والسرقة مثلاً بالنسبة لله تسمى مفعولات وآثاراً، لكن بالنسبة للعبد تسمى فعلاً، فالصلاة، والصيام، والصدقة، والزنا، والسرقة، والغيبة، والنميمة، تسمى بالنسبة للعبد فعلاً، وبالنسبة لله جل وعلا مفعولات، وتنسب للعبد لأنه فاعل مكتسب، ولله جل وعلا لأنه الخالق الموجد.

فالفعل خلق لله، والعبد فاعل، فهو أثر الله، والمفعول غير الفاعل، فإذا قلت: خلق الله الزنا، فبالنسبة له هو خلق يحمد عليه؛ لأنه كمال وجلال، ولأنه فعله لحكمة عظيمة، أما الزاني والفعل فهو مفعول وأثر لخلق الله جل وعلا وليس فعلاً له، بل فعل للعبد حقيقة، وهذا كقول الله تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ * مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:٧٨ - ٧٩]، ففي الآية الأولى قال: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء:٧٨]، فلم يفرق بين الحسنة والسيئة، وفي الآية الثانية أعاد التفريق فقال: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:٧٩].

وقوله: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ} [النحل:٥٣]، أي: أن أي نعمة أنت تنعم بها من طاعة أو حسنة فمن الله، وقوله: {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:٧٩]، فهذا من مفعولات الله.

ولذلك قال ابن عباس في قوله تعالى: ((وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) قال: كتبها وقدرها عليك وعلمها قبل أن توجد بخمسين ألف عام، فيعلم أنك ستقترف السوء، ثم تأتيك البلية بسبب هذا السوء، ولذلك يقال: ما نزل بلاء إلا بذنب، وما رفع إلا بتوبة.

فكيف الجمع بين هذا وبين حديث النبي صلى الله عليه وسلم (أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل)، وحديث: (والشر ليس إليك)، فهل قضاء الله شر، وهل ينسب الشر إلى الله جل وعلا مع أنه خلقه أم لا؟ الجواب هو أن الفرق بين الإرادة الكونية والشرعية أن الكونية فيما يحبه الله وما لا يحبه، وأنه سيقع حتماً لا محالة، والشرعية خاصة فيما يحبه الله، وقد يقع وقد لا يقع، كما في قوله تعالى: ((وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ))، فالسيئة لا تنسب إلى الله؛ لأنه لا يحبها، وقد تلتقي المحبة مع القضاء الكوني، فإيمان أبي جهل يحبه الله شرعاً، ولا يحبه كوناً.