[التوسل الممنوع وأنواعه]
أما القسم الثاني فهم الذين جروا خلف العواصف والويل وتركوا السنة وراءهم ظهرياً، الذين ابتدعوا في دين الله جل وعلا، وتوسلوا التوسل الممنوع.
والتوسل الممنوع أيضاً ينقسم إلى ثلاثة أنواع: النوع الأول: شرك يخرج من الملة، فصاحبه كافر خالد مخلد في نار جهنم والعياذ بالله، وهو الذي يأتي إلى الولي، أو إلى قبر من يظن أن فيه خيراً فيستغيث به، أو يطلب منه جلب نفع، أو دفع ضر، وقد جلست مع بعضهم وكنت أقول له: اتق الله، فيشيح بوجه عني ولا يجيب، فهو يخشى من الإجابة، وأنا أقول له: إذا ذهب رجل إلى الحسين فقال: يا حسين! اشفي مريضي، أو قال: يا حسين! ابنتي لا تنجب اجعلها تنجب، ماذا تقول فيه؟ وهو يأبى أن يجيب، فعله يعتقد في قلبه أنه يجيبه؛ لأن بعض الثقات ذكروا لي أنه يقول: إن للكون أقطاباً وأبدالاً يتحكمون فيه، وإن أرواح الأولياء تحرج فتنصر المؤمنين! وسنعقد فصلاً خاصاً للرد عليه بإذن الله، فهو كافر، وسنأتي بكلامه نسمعكم إياه، ونرد عليه، حتى نؤصل العقيدة الصحيحة، احتراماً واحترازاً وحفظاً لجناب التوحيد.
فمثال النوع الأول من التوسل الممنوع أن يذهب إلى البدوي فيقول: يا بدوي! اشف ابني، أو يقول: يا سيدة زينب! أنت مباركة، ابنتي لا تلد فاجعلي ابنتي تلد، أو تكتب للنبي صلى الله عليه وسلم وهذا حدث واقعاً عند النبي صلى الله عليه وسلم، أنه ذهبت امرأة فكتبت ورقة وقالت فيها: يا رسول الله! ابنتي لا تنجب اجعلها تنجب، اعتقدت في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يكون لله جل وعلا، والأشد منه أن يذهب إلى البدوي أو المرسي أبي العباس أو إلى غيره يدعوه ويستغيث به، ويطلب منه جلب النفع، أو دفع الضر، ومن فعل هذا فقد وقع في الشرك من ثلاثة أوجه: الوجه الأول: شرك في الألوهية إذ إن الدعاء عبادة، والقاعدة أن كل عبادة ثبت بالكتاب أو بالسنة أنها عبادة ففعلها لله توحيد، وفعلها لغير الله شرك، والدعاء لطلب النفع أو لدفع الضر عبادة كما ثبت ذلك بالكتاب، قال الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:٦٠]، ثم قال: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} [غافر:٦٠] وهذا هو محل الشاهد، فثبت أن الدعاء عبادة، بالتصريح وبالتنصيص من قول النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (الدعاء هو العبادة)، وهذا أسلوب يسمى أسلوب حث، يعني كل العبادة دعاء، والدعاء هو كل العبادة، إذاً: الدعاء عبادة، ففعلها لله توحيد، وفعلها للبدوي أو للحسين أو للسيدة زينب أو للجيلاني شرك.
الوجه الثاني من الشرك: شرك في الربوبية، إذ إن الذي يستغيث بـ البدوي أن يشفي ابنه أو يشفي مريضه يعتقد في قلبه اعتقاداً بأن البدوي يستطيع أن يشفي ابنه، وهذا لا يكون إلا لله جل وعلا، فهذا جعل صفة الربوبية لميت لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً.
الوجه الثالث من وجوه الشرك التي يقع فيها من يدعو ويستغيث غير الله لجلب نفع أو دفع ضر: شرك في الأسماء والصفات، حيث إنهم أنزلوا الخالق منزلة المخلوق، وفيه تشبيه فالملك أو الرئيس، أو مدير العمل، كيف تدخل عليه، لا بد من سكرتير أو أمير الديوان يشفع لك عند المدير، فهم نزلوا الخالق منزلة المخلوق فقالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:٣]، كأن الله ملك لا يمكن لأحد أن يدخل عليه حتى يستأذن من السكرتير أو حتى يأتي بالشفيع ليشفع له، فسبحان الله ما أكرمه! وما أحلمه! وما أعظمه! ما عليك إلا أن تتوضأ ثم تخلو بربك وتكبر للصلاة فإذا بك قد دخلت عليه، بل هو قِبَل وجهك، فكلما سجدت وبكيت لله جل وعلا كنت أقرب ما تكون له، بل إنك حين تدعو الله جل وعلا وتتضرع وتتذلل وتتمسكن له يستجيب لك، فهو لا يحتاج إلى بواب ولا يحتاج إلى شفاعة.
فوجه الشرك في الأسماء والصفات، التشبيه حيث أنزلوا الخالق منزلة المخلوق.
النوع الثاني من التوسل الممنوع: هو مثل الأول لكنه أخف، وهو ذريعة إلى الشرك الأكبر، فهو من الشرك الأصغر وصورته أن يذهب إلى الميت لكن لا يطلب منه جلب نفع ولا دفع ضر، لكنه يخاطبه، يقول: يا بدوي! أنت عند الله جل وعلا، وقد رأيت الكرامات، ولك مكانة فاشفع لي عند ربك أن يغفر لي أو قال: اسأل الله جل وعلا أن يرزقني، إذاً: هو ما طلب من البدوي أن يرزقه أو يغيثه، ولكنه خاطب الميت، على اعتقاد أن الميت يسمع، وهذا مما اختلف فيه العلماء، فعلماء الحجاز قاطبة يجعلونه من الشرك الأكبر، والصحيح الراجح عند تدقيق النظر أن هذا ليس من الشرك الأكبر، بل هو من الشرك الأصغر؛ لأنه إنما خاطب ميتاً يعتقد أنه يسمع، وسماع الميت فيه خلاف بين العلماء، ولا طلب منه جلب نفع، ولا دفع ضر، ما سأله إلا أن يستغفر الله له، مثله مثل الذي يتذكر آيات الله جل وعلا بأن الذين يحملون العرش ومن حوله يستغفرون للذين آمنوا، فيقول: يا ملائكة ربي! استغفري لي، فهو أمركم أن تستغفروا لي، فهذا ليس بمشرك، مع أنه خاطب غائب؛ لأنه لم يطلب منه دفع ضر ولا جلب منفعة، فهذا ليس بشرك.
إذاً: النوع الثاني من التوسل الممنوع ليس بشرك أكبر، لكنه من الشرك الأصغر.
النوع الثالث من أنواع التوسل الممنوع فيه اختلاف فقهي، وليس اختلافاً في العقيدة ألا وهو: التوسل بذات النبي أو بجاه النبي، وقد كثر على الألسنة قول: بحق جاه النبي افعل لي كذا، وقد ذكرت هذا لأكون منصفاً، فهذا فيه خلاف بين أهل السنة والجماعة، منهم من أباحه ومنهم من منعه، والمنع أقرب للصواب؛ لأن الحجة مع من منع كما سنبين.
أما الذين قالوا بصحة التوسل بجاه النبي أو بذات النبي فقد وردت رواية عن أحمد بن حنبل، إمام أهل السنة والجماعة وهذه الرواية مستغربة جداً، ورجحها العز بن عبد السلام، والإمام الشوكاني، بل إن الشوكاني توسع في المسألة حتى قال بجواز التوسل بذوات الصالحين، وأدلتهم جواز التوسل بجاه النبي وذات النبي من الأثر ومن النظر، أما من الأثر: فعن عمر بن الخطاب أنه قال: كنا نتوسل إليك بنبيك ونحن نتوسل إليك بعم نبيك، أي بذات عم النبي أو بجاه عم النبي صلى الله عليه وسلم.
واستدلوا أيضاً بحديث آخر رواه الحاكم في المستدرك وصححه وهو صحيح عن عثمان بن حنيف أنه قال: (جاء رجل أعمى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! ادع الله لي أن يرد علي بصري، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إن شئت دعوت لك، وإن شئت صبرت ولك الجنة -كما قال للمرأة التي كانت تصرع- قال: ادع الله لي، فقال: اذهب فتوضأ ثم صلِّ ركعتين، ثم قل: اللهم! إني أتوجه إليك بنبيك أو أتوسل إليك بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم، يا محمد! يا نبي الرحمة! إني أتوجه بك إلى ربي، ثم قال: اللهم! شفعه في وشفعني فيه).
وتفسير شفعه في أي: اقبل شفاعته فيَّ، فالرجل لا يشفع للنبي صلى الله عليه وسلم عند الله، ولكنه يقول: يا رب! اقبل دعائي أن تقبله شفيعاً لي عندك، كما سنبين.
وأما من النظر أن النبي صلى الله عليه وسلم أكرم خلق الله على الله، فلنا أن نتوسل بجاهه ونتوسل بذاته عند الله جل وعلا.
فهذه هي أدلة الذين قالوا بجواز التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم.
أما جماهير أهل العلم وترجيح شيخ الإسلام رحمة الله عليه الذي نشر العلم والذي حارب من أجل ارتفاع كلمة أهل السنة والجماعة، ودحض أهل البدعة، فقد رجح أن هذا التوسل ممنوع، وإن كان هناك قول آخر له بأنه مشروع لكنه رجع عنه، واستدل بنفس حديث العباس؛ لأن عمر بن الخطاب قال: إنا كنا نتوسل بنبيك، ثم قال: ونحن اليوم نتوسل بعم نبيك.
فهل توسل بعم النبي لجاهه أم بدعائه؟ في نفس الحديث قال له عمر بن الخطاب: قم يا عباس! فقام العباس وقال: اللهم! إنهم توسلوا بي -أو بمكانتي- عند نبيك، اللهم! ما نزل بلاء إلا بذنب، وما رفع إلا بتوبة، ورفع يديه حتى استسقى لهم، فسقاهم الله جل وعلا بدعاء العباس.
وأيضاً استدل جماهير العلماء: بأن الصحابة رضوان الله عليهم عمر وأبو بكر ومعاوية ومن بعدهم لم يتوسلوا لا بذات النبي ولا بذات غير النبي صلى الله عليه وسلم، فـ عمر رضي الله عنه ما كان له أن يترك الأفضل ويذهب إلى المفضول، وما كان له مع القحط وعام الرمادة أن يتوسل بالضعيف ويترك القوي، فالقوي هو ذات النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلم يتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم ولم يذهب إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقف على المنبر ويقول: أتوسل إليك بجاه نبيك، أو بذات نبيك.
وأيضاً معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وأرضاه، لما أصيب الناس في عصره بالقحط، قام على المنبر وقال: اللهم إنا نتوسل إليك بأفضلنا وخيرنا، قم يا يزيد! وهو يزيد بن الأسود، فقد كان بكاءً زاهداً في الدنيا عابداً متحمساً، وفي رواية قال: قم يا بكاء! فاستسق لنا، فقام يزيد فرفع يديه فاستسقى فما نشب أن وضع يده حتى أنزل الله المطر كرامة لـ يزيد العابد.
فـ معاوية ما كان ليترك التوسل بذات النبي أو جاهه ويذهب إلى يزيد التابعي ليتوسل بدعائه، إلا لأنه وقر في قلبه أنه لا يجوز التوسل بذات النبي، وهذا هو الراجح الصحيح.
فالصحيح أنه لا يجوز لأحد أن يتوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم ولو كان التوسل بذات النبي وجاهه خيراً لسبقونا إليه وهم أفضل وأفقه.
فإذا كان هذا هو الراجح فلا بد لنا من الإجابة عن أ