للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[فضائله]

كان عثمان رضي الله عنه وأرضاه زاهداً ورعاً عابداً فقيهاً عالماً، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم مائة وخمسين حديثاً، وكان رضي الله عنه وأرضاه -كما اتفق الصحابة- من أعلم الصحابة على الإطلاق بالمناسك، ويخلفه بعد ذلك عبد الله بن عمرو بن العاص، وكان من فقهاء الصحابة فهو عالم فقيه محدث، وكان عابداً لله جل وعلا قانتاً له، لا يترك صيام النهار عملاً بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من صام يوماً في سبيل الله بعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً).

فكان صواماً للنهار قواماً لليل، حتى أثر عنه أنه كان يختم القرآن في ليلة واحدة في ركعة واحدة.

ولما حج بالناس قام في الحجر من العشاء إلى الفجر يختم القرآن، وقد أنزلت فيه الآيات كما جاء ذلك عن عبد الله بن عمر بن الخطاب في قول الله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:٩] قال ابن عمر: هذه في عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه.

فكان قواماً لليل صواماً للنهار، ويكفيه أنه الذي بين لنا كيفية وضوء النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (أنه أخذ تنوراً فيه الماء فغسل يديه ثلاثاً، ثم مضمض واستنشق ثلاثاً، ثم غسل يديه إلى المرفقين ثلاثاً، ثم مسح برأسه وغسل رجليه ثلاثاً ثم قال: توضأ رسول الله نحو وضوئي) يعني: هذا الوضوء بالضبط هو الذي توضأه النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا من فقهه ودقة نظره لأفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال: (توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو وضوئي هذا، ثم قال: من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه).

والمعنى لا يفكر في أمور الدنيا ولو هجمت عليه أمور الدنيا سارع بردها، حتى يفرغ قلبه لله جل وعلا ولتدبر الآيات.

قال: (غفر له ما تقدم من ذنبه).

فرضي الله عن عثمان الذي بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الفائدة العظيمة.

وكان سخياً كريماً زاهداً رضي الله عنه وأرضاه.

جواداً كريماً فالجود والكرم كانت من خلاله، وكان الحياء مع الجود والكرم صديقان له ملازمان لشخصيته، والحلم والأناة كانت من صفاته أيضاً، فـ عثمان بن عفان كان من أجود الناس، أنفق كل ماله في سبيل الله، وكان له السبق في الإسلام والهجرة كما سنبين، وبعد الهجرة واجهت المسلمين مشكلة أيما مشكلة، وهي مشكلة الماء، فقد قدر الله بحكمته أن الماء يكون في يد خبيث لعين من أحفاد القردة والخنازير، وهي بئر رومة، فقد كان يمتلكها يهودي، وكان يرفع السعر على المسلمين فيشترون منه الماء بثمن غالٍ، فاشتد ذلك عليهم وشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستشرفت نفسه إلى من يجود بما معه من المال ليشتري هذا البئر للمسلمين ويكفيهم مئونة الماء، فعلم عثمان بن عفان بحكمته رضي الله عنه وأرضاه ماذا يريد رسول الله، فذهب فساوم اليهودي على بئر رومة، فما أراد الرجل أن يبيعها له على الإطلاق، فقال: تأخذ أنت نصفها وأشتري أنا نصفها، فاشترى نصفها باثني عشر ألفاً، ثم أوقف النصف الذي اشتراه على المسلمين، فالبئر تكون يوماً لـ عثمان ويوماً لليهودي، فكان اليوم الذي لـ عثمان يأتي المسلمون فيأخذون من الماء ليومين، ويصبح اليوم الذي يمتلكه اليهودي فارغاً لا يأخذ منه ماء ولا ينتفع به، فلما علم اليهودي أن المسلمين أوقعوه في حفرة لا يخرج منها ذهب فساوم عثمان على النصف الآخر والشطر الآخر فاشتراه منه وأوقفها كاملة في سبيل الله جل وعلا، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من يشتري بئر رومة وله الجنة؟).

فحازها عثمان رضي الله عنه وأرضاه.

ولما اشتد بالمسلمين البأس في تجهيز جيش العسرة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد استنصر الناس لينفقوا على الجيش الذي سيذهب لتأديب أتباع الروم، فجاء عثمان بألف بعير بأقتابها وما عليها، وبأموال طائلة وضعها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، وسر النبي صلى الله عليه وسلم، وظهر الفرح على وجه الرسول صلى الله عليه وسلم، فنظر إلى عثمان وقال: (ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم).

وهذا يقطع ألسنة كل من أخذ على عثمان رضي الله عنه وأرضاه أي مأخذة، فأي فعل يفعله يغمر في ميزان حسناته رضي الله عنه وأرضاه.

وهو من السابقين إلى الإسلام فقد سبق إسلامه ستة أو سبعة فقط، وكان إسلامه على يد أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، فقد كان عثمان ذا عقل راجح فذهب إليه أبو بكر ليدعوه إلى الإسلام فقال: ويحك يا عثمان! أتعبد صنماً لا يضر ولا ينفع وتترك رب الأكوان؟ فأخذه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلمة واحدة تؤثر في القلوب النقية، أما القلوب القاسية فهي بعيدة أبعد ما تكون عن الله جل وعلا، ولذلك دائماً أنا أقول: محل مقياس الناس ومقامات الناس عند رب الناس هو نقاء القلوب، ولذلك عثمان رضي الله عنه وأرضاه ما لبث أن سمع الكلمة حتى رق قلبه للإسلام، فدخل على رسول الله بقلب صاف نقي فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (يا عثمان! أجب داعي الله إلى جنته).

فبكى بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فالقلوب النقية البيضاء الصافية تدخل إلى دين الله جل وعلا، فكان رضي الله عنه وأرضاه ذا عقل راجح وقلب نقي.

وكان مع هذا اللين والرقة شجاعاً، والشجاعة تظهر عند الحزم في الأمور، وعندما يكلف بمهمة يتقاعس عنها أشجع الناس فتظهر شجاعته، وهذه الشجاعة ظهرت جلية في السفارة عند صلح الحديبية، وذلك لما طلب النبي صلى الله عليه وسلم من عمر بن الخطاب أن يكون سفيراً إلى قريش يبين المسألة التي بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم اعتذر عمر، ثم كلف النبي صلى الله عليه وسلم عثمان فذهب عثمان حتى أن بعض الصحابة اغتبط عثمان في ذلك وقال: هنيئاً له سيطوف بالبيت، ولننظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم كيف يظن في عثمان، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا والله! لا يطوفن البيت قبل أن نطوفه) ولما ذهب عثمان إلى مكة رأى البيت وهو متشوق إلى أن يطوف بالبيت فقال: لا أطوف بالبيت ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يطف به، ومنع نفسه الطواف.

والمقصود أنه قبل أن يكون سفير النبي صلى الله عليه وسلم إلى قريش، وهذه من بطولاته وشجاعته.

ومن شجاعته الحازمة أيضاً أنه جمع القرآن في مصحف واحد وهو مصحف عثمان الذي وحد الله به الأمة، وهذه من المآخذ التي أشعلوها فتنة عليه كما سنبين.

والمقصود أن فضائل عثمان كثيرة جداً، فله المكانة السامية السابقة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكفى أن النبي صلى الله عليه وسلم بشره بالجنة وهو يمشي على رجليه بين أظهر الناس، وفي الحديث: (وقف النبي صلى الله عليه وسلم على جبل أحد فاهتز به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اثبت أحد، ما عليك إلا نبي وصديق وشهيدان).

وكان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان بن عفان، فأما عمر وعثمان فكانا شهيدين رضي الله عنهما.

وأيضاً قيل في رواية أخرى: (وقف النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير، فاهتز فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما عليك إلا نبي وصديق وشهيد).

وشهيد هنا نكرة في سياق النفي فتعم، فكأن المعنى: كل من عليك شهيد، فالنبي صلى الله عليه وسلم مات شهيداً، وأبو بكر مات شهيداً أيضاً، وعمر وعثمان وطلحة كل هؤلاء ماتوا شهداء كما في وقعة الجمل.

والنبي صلى الله عليه وسلم بشره بالجنة لما كان أبو موسى بواباً له ففي الحديث: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم في حائط، فقال أبو موسى: سأكون بواباً لرسول الله اليوم، فجاء أبو بكر يستأذن فقال أبو موسى: انتظر، فدخل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من؟ قال: أبو بكر.

قال: ائذن له وبشره بالجنة.

فدخل أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجده جالساً في الحائط تتدلى رجله في الماء، فجلس بجانب النبي صلى الله عليه وسلم على يمينه وأدلى برجله في الماء، ثم جاء عمر يستأذن.

فقال أبو موسى: مهلاً، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من؟ قال: عمر.

قال: ائذن له وبشره بالجنة.

فبشره بالجنة ودخل وجلس في الجانب الأيسر للنبي صلى الله عليه وسلم.

ثم جاء عثمان رضي الله عنه وأرضاه فاستأذن فقال أبو موسى: مهلاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من؟ قال: عثمان.

قال: ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه).

وهذه البلوى كما سنبين في مسند أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم بينها أيما بيان لـ عثمان نفسه.

(فدخل عثمان فتغير وجهه وقال: الله المستعان).

يعني: سيبشر بالجنة على بلوى تصيبه (فدخل عثمان ثم جلس مقابل رسول الله صلى الله عليه وسلم).

ففي مسند أح