فلم يخف ولم يرجع، بل نوه حينئذ بشأن التوحيد وأعلن بصادق التفريد، وحقر آلهتهم التحقير العظيم، ونقص آراءهم وعقولهم، فأرهبه الملك ولم يفتك فيه لكون أبيه آزر كان من أتباعه، فلم يرجع إبراهيم عليه السلام لما منحه الله عز وجل من قوة اليقين، وما خصه به من الوصول والتمكين، فلم يزل الملك يخوفه بالقتل، ويعرضه على السجن، فلم يزده ذلك إلا قوة في توكله على الله سبحانه وتعالى واعتمادا عليه، وطرح ما سواه لعلمه أنه إن نفعه الله فلا ضار له، وإن ضره فلا مانع له، كل ذلك لقوة إيمانه وخلوص يقينه، فإن التوكل ثمرة اليقين.
فلما رأى الملك أنه لا يرجع عما هو عليه، جعل له منجنيقا، والمنجنيق: عبارة عن أخشاب يربط أطرافها بالسلاسل والحبال ويرمى بها من محل شاهق، فهو الشيء الذي يرمى بها إلى محل بعيد بغاية الشدة والقوة، فأمر الملك وهو نمرود بن كنعان بجمع الحطب والأخشاب، فجمعت وأوقدها في حفرة عظيمة بعد أن حفرت تلك الحفرة القامات الطويلة، فوضعت الأخشاب فيها والحطب الكثير، وأوقدت أياما عديدة حتى صارت في أشد ما يكون من الحرارة، بحيث لا يمكن أن يمر بها ولو من البعد، فأمر بالمنجنيق من بعد، فلما فارق المنجنيق وهو في الهواء نازلا إلى مستوقد النار يعرض له ملك من ملائكة الله عز وجل، فقال له: ألك حاجة يا إبراهيم الخليل؟ فقال أما إليك فلا، فقال له: الآن تدعو الله سبحانه وتعالى. فقال: علمه