الذين نفوا الرؤية يعتمدون -على زعمهم- أن الرؤية لا تقع إلا على جسم، وقالوا: لو أثبتنا الرؤية لأثبتنا أن الله جسم وهذا كفر، وإذا انتفى هذا ينتفي الملزوم فلازم الكفر كفر، فعلى هذا يكون عندهم القول بإثبات الرؤية كفر، وهكذا ينعكس الأمر عند من أراد الله جل وعلا فتنته، فيصبح الحق باطلاً والباطل حقاً {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ}[النور:٤٠] ، وشابهوا الذين لا يؤمنون إلا بالمحسوسات.
ولذلك فإن أصل التعطيل هو التشبيه فهم عندما لم يفهموا ويعقلوا رؤية الله إلا بما فهموه من أنفسهم قالوا: إنها لا تقع إلا على شيء مقابل، والمقابل لابد أن يكون جسماً يصطدم به الشعاع الذي ينطلق من العين حتى إذا انعكس حصلت الرؤية، أما لو لم يكن هناك شيء يقابل الرائي فلا يمكن أن يرى شيئاً، هذا هو أصلهم الذي بنوا عليه نفي الرؤية، وقد سبق أن قلنا: إن كلمة جسم من الكلام المجمل الذي لا يجوز إثباته ولا نفيه، فإذا أراد بالجسم ما يعرفه به المتكلمون، فإنهم مختلفون في تعريف الجسم! ولكن الجسم في اللغة العربية: هو البدن، بدن الإنسان أو بدن الحيوان، وكذلك ما لم يكن حياً مثل الحصى وغيرها فهي أجسام، وهو كل شيء له مكان يشغله أما أهل الكلام فقد اختلفوا في تفسير الجسم، فمنهم من قال: الجسم كل ما شغل مكاناً، ومنهم من يقول: الجسم ما صح أن يقال: هو هنا أو هناك أو فوق أو تحت، ومنهم من قال: الجسم ما صحت الإشارة إليه، إلى غير ذلك من تفسيراتهم، وكلها باطلة، مع أنه لا يجوز إطلاق لفظ الجسم ولا نفيه على الله؛ لأنه إذا أطلق فقد يوهم باطلاً: قد يوهم أنه جسم كأجسام الخلق تعالى الله وتقدس، وإذا نفي فقد يوهم أن الله لم يقم بنفسه تعالى وتقدس.
إذاً: فالمبنى الذي بُني عليه نفي الرؤية مبنى باطل، وما بني على باطل فهو باطل، ومع ذلك نقول: إن الواجب على العبد أن يعلم أن الله جل وعلا أكبر وأعظم من كل شيء، وأنه فوق المخلوقات كلها، وأنه تعالى يقبض السماوات كلها ويطويها بيده وتكون صغيرة بالنسبة إليه هذا أمر، الأمر الثاني: أنه يجب على العبد أن يؤمن بما قاله الله جل وعلا ولو لم يدركه عقله وكذلك ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، أما إذا حكم على قول الله وقول رسوله بعقله فهو ضال وتائه.
ومن المعلوم منطقياً وعقلياً أنه لو وجد رجلان، واحد يؤمن بما قاله الله وما قاله الرسول: من أن الله يرى رؤيةً حقيقية إلخ، والآخر يقول: هذا كفر؛ لأنك إذا قلت ذلك لزمك أن تجعله جسماً، وإذا جعلته جسماً كفرت؛ لأن التجسيم كفر، ثم مضيا إلى الله جل وعلا كل على اعتقاده، فأوقفهم الله جل وعلا بين يديه، فقال الأول لما سأله ربه: يا رب! آمنت بقولك وبقول رسولك صلى الله عليه وسلم، واتبعت ذلك، وعلمت أنك خاطبتنا باللغة العربية التي نفهمهما، وهذا الذي أفهمه من اللغة، وقال الآخر: يا ربي! اعتمدت على عقلي وفكري، وتأولت قولك الذي قلته وقول رسولك الذي قاله، وأرجعتهما إلى عقلي، فدلني عقلي على أن هذا كفر، فأيهما أولى بالعذر وقبول الحجة الأول أم الثاني؟ لا شك أنه الأول، أما الثاني فلا حجة لديه، وليس معذوراً؛ لأنهما لم يكلفا بعقلهما، وإنما كلفا بكتاب الله جل وعلا وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم.