قال:(وقوله: (أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيثما ما كنت) حديث حسن) هذا انتقال إلى صفة أخرى من صفات الله جل وعلا، وهي المعية، والشيخ رحمه الله ذكر المعية بعد العلو ليبين أن المعية لا تخالف العلو، بل توافق ذلك، فمعيته لا تنفي علوه، وعلوه لا ينفي معيته، وسبق أن المعية تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: معية عامة، ومقتضاها التخويف والاطلاع، وهذا ورد كثيراً في كتاب الله جل وعلا كقوله جل وعلا:{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ}[الحديد:٤] ، وقوله:(يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنْ الْقَوْلِ وهو معهم) .
القسم الثاني: معية خاصة، ومقتضاها النصر والتأييد والحفظ كقوله جل وعلا:{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}[النحل:١٢٨] ، وقوله جل وعلا في خطابه لموسى وأخيه هارون:{إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى}[طه:٤٦] ، وقوله جل وعلا في إخباره عن نبينا صلى الله عليه وسلم وهو مع صاحبه أبي بكر في الغار:{إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}[التوبة:٤٠] يعني: إنه معهما دون الكفار الذين هم بجوار الغار عند بابه، فالله معهما بحفظه واطلاعه على حالتهما ونصره وتأييده، وليست هذه المعية مقتضية للمخالطة والممازجة تعالى الله وتقدس، ولو كانت المعية تقتضي المخالطة لما أصبح لتقسيمها إلى عامة وخاصة أي فائدة.
وقول العلماء عن المعية العامة: إن الله معهم بعلمه، لا يقصدون بهذا مجرد العلم فقط، وإنما ذكروا هذا لأنه ظاهر جداً، كل يعلمه ولا ينكره أحد، وإنما هو معهم بعلمه، وكذلك بنظره وإحاطته وقبضته، وهم لا يخرجون عن ذلك، وسبق أن المعية في لغة العرب معناها المصاحبة، وهي تختلف باختلاف ما أضيفت إليه، وكل من أضيفت إليه المعية تكون معيته على ما يليق بذلك المضاف، فقد يقول الإنسان مثلاً: مالي معي، ويكون لها معنى، ويقول: زوجتي معي، فيكون لها معنى، ويقول: صاحبي معي، فيكون له معنى، ويقول: متاعي معي، وهكذا، فإذا أضيفت إلى الله يجب أن تكون على ما يليق به جل وعلا، وقد قال الله جل وعلا:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ}[الفتح:٢٩] أي: معه على الإيمان، وقتال الكفار، والامتثال لأمر الله، والقيام بما أوجبه عليهم، وليس المعنى أنهم معه أي: مختلطين به، ممازجين للحمه ودمه.
هذا لا يقوله من يعرف اللغة، وبهذا يتبين أن الذين يقولون: إن المعية تدل على الاختلاط والكون مع الناس في الأرض -تعالى الله وتقدس- ضلال بين.
وفي هذا الحديث دليل على تفاضل الإيمان، وأن بعضه أفضل من بعض، ودليل على أن أعمال القلوب داخلة في مسمى الإيمان، وأنها أيضاً تتفاضل؛ ولهذا قال:(أفضل الإيمان أن تعلم) والعلم هذا من عمل القلوب، وهذا مقام الإحسان، وهو أفضل المقامات، وهو أن يؤدي الإنسان جميع ما يؤديه، وينتهي عما ينتهي عنه وهو على هذه الصفة: عالم بأن الله معه ينظر إليه، ويسمع كلامه، ويعلم ما في خلجات نفسه، وينظر إلى حركاته، فإذا تيقن ذلك فإنه يستحي من الله جل وعلا، ولا يقدم على المنهي، ولا يحجم عن الواجب الذي أوجبه الله عليه.
ثم هذا العلم قد قسمه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى درجتين، إحداهما أعلى من الأخرى، فقال صلى الله عليه وسلم:(الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه) ، هذه الدرجة العليا كأنك تراه، أي: تشاهده أمامك، ومعلوم أنه إذا كان يراه فإنه لن يدخر وسعاً في إحسان العمل، وأدائه على الوجه الأكمل، ولن يدخر وسعاً في الانتهاء عن المنهي والابتعاد عنه، فإن لم يستطع ذلك، ولم يصل إلى هذا، فينتقل إلى درجة أقل من هذه فقال:(فإن لم تكن تراه فإنه يراك) يعني: أن تنتقل إلى العلم بأنه يراك، فتعلم أنه يراقبك ويراك، وهذه أيضاً من درجات الإحسان، وهي من أفضل الأعمال، ولكن الدرجة التي قبلها أعلى.
وقوله:(حيثما كنت) يعني: في أي وقت كنت، وعلى أي حال كنت، فهي عامة في الأوقات وفي الحالات، يعني: دوام ذلك، وليس معنى هذا أن هذا يلم به الإنسان مرة ويفقده أخرى، وقد بين صلى الله عليه وسلم أن أفضل الإيمان استدامة الإنسان على هذه الحال، والإنسان قد تختلف أحواله في الإيمان، فمرة يزداد إيماناً وعلماً، ويحس بذلك في نفسه، ومرة يضعف إيمانه إذا غفل، واقتراف المعاصي يضعف إيمانه، وإذا ذكر الله واستحضره بقلبه وعمل الطاعات يزداد إيماناً على إيمانه السابق.