[القسم الأول: القائلون بأنه في كل مكان]
معلوم أن الذين أنكروا علو الله وارتفاعه قسمان كما سبق: قسم قالوا: إنه في كل مكان، ولم ينزهوه عن مكان من الأمكنة حتى الأمكنة التي تكون محلاً للشياطين، كمحل قضاء الحاجه ونحوه، تعالى الله وتقدس، بل حتى أجوافهم؛ لأنهم قالوا: في كل مكان، وهؤلاء قسم من الجهمية ومن الأشاعرة ومن غيرهم، وليس لهم على هذا أي دليل، إلا ما انتحلوه وزعموا أن العقل دل عليه، وهذا لا يمكن أن يكون عقلاً صحيحاً.
ويجب أن يسأل هؤلاء، ويقال لهم: الله جل وعلا أليس هو الخالق؟ فلابد أن يقروا بأنه هو الخالق للمخلوقات المشاهدة وغيرها، فيقال لهم: لما خلق المخلوقات أين خلقها؟ هل خلقها في ذاته؟ ومعلوم أن هذا كفر، والذي يقوله يكون كافراً، فلابد أن يقروا بأنه خلقها خارج ذاته تعالى وتقدس، منفصلة متميزاً عنها، فإذا كان متميزاً عنها فلابد أن يكون فوقها؛ لأن التحت مقر الشياطين وهو صفة سفول وصفة نقص، وليس هناك إلا تحت وفوق، فالله جل وعلا يتنزه عن صفة النقص، فلابد أن يوصف بالفوقية.
هذا على سبيل المجادلة، مع أننا لا نحتاج إلى مثل هذا؛ لأن الله أغنانا بما أنزل علينا من قوله وبما قررته رسله، وبما خلق فينا من الفطر، ولابد أن كل إنسان يحتاج إلى ربه في وقت من الأوقات، فإذا احتاج إليه فإنه يتجه إليه يسأله، فهل يمكن أن يلتفت يميناً أو شمالاً أو تحت قدمه؟! لابد أن يرفع يديه إلى السماء ويقول: يا رب، وهو لم يعلم في ذلك، وإنما فطره الله جل وعلا على هذا وخلقه: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ} [الروم:٣٠] ، وهذا أمر ضروري.
ولهذا لما كان أحد كبار الأشاعرة، يتكلم في هذا المسجد -مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم- ويقرر عقيدته الباطلة ويقول في كلامه: كان الله ولا مكان، وهو الآن على ما كان عليه قبل خلق المكان، قام رجل من الناس وقال: دعنا من هذا الكلام الذي لا يفهمه الناس، ولسنا مكلفين به، ولكن أخبرني عن أمرٍ أجده في نفسي أنا وأنت وكل من قال: يا ألله، فإنه يجد في نفسه دافعاً يدفعه إلى السماء، فيرفع يديه يقول: يا رب! يا رب! من أين أتت هذه الضرورة؟ وكيف ندفعها، أخبرني عن ذلك؟ فسكت الرجل، ثم وضع يده على رأسه وكان على كرسي، ثم نزل وصار يبكي، ويقول: حيرني الرجل، حيرني الرجل، يعني: أنه أفسد عقيدته التي كان يقررها ويدعو إليها، ففسدت بكلمة واحدة، وصار يبكي ما يدري كيف يعتقد! هكذا الباطل إذا قذف بقذيفة من قذائف الحق دمغته وبطل، والأدلة الدالة لهذا كثيرة جداً، ولكن هذا نوع من الفطرة التي فطر الله الناس عليها، ولا أحد يستطيع أن يدفع ذلك.
ومعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم والكتاب المنزل عليه ما جاءا، إلا مؤيدين للفطرة ومرشدين للعقول، أما العقل بذاته فإنه يختلف اختلافاً كبيراً جداً؛ لأن كل إنسان يدعي أنه عاقل وأن العقل معه، والله جل وعلا لا يقاس بالأقيسة ولا تضرب له الأمثلة؛ لأنه ليس له مثل جل وعلا، كما أنه جل وعلا لا يشاهده أحد فيخبر عنه، وقد أخبرنا أنه أكبر من كل شيء، وشرع لنا عند كل خفض أو رفع في الصلاة وفي غيرها أن نقول: الله أكبر، أي: أكبر من أي شيء؟! من عقول هؤلاء الذين جعلوه محصوراً في داخل المخلوقات الصغيرة، تعالى الله وتقدس.
الله أكبر من كل شيء، وأكبر مما يتصوره المتصورون، وخلقه كله صغير حقير بالنسبة إليه، لا يجوز لمسلم أن يتصور أن السماوات على عظمها وكبرها تكون مظلة لرب العالمين، أو تكون مقلةً له، تعالى الله وتقدس! وهي خلق من مخلوقاته، وذرة من قدرته الهائلة الباهرة التي لا يعجزها شيء، وهو على كل شيء قدير.
ولهذا قال: (وليس معنى قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ} [الحديد:٤] أنه مختلط بالخلق، فإن هذا لا توجبه اللغة) ، أي: لا تدل عليه اللغة العربية؛ لأن المعية في اللغة هي المصاحبة، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل) ، فهو يكون مع المسافر، ويكون مع أهله الذين تركهم في بلده، وهو على عرشه تعالى وتقدس.
ثم ليعلم أن علماء السلف إذا جاءوا إلى مثل هذه الآية: (وهو معكم) ، قالوا: بعلمه، ففي كتب التفسير وفي شروح الحديث وفي كتب العقائد يجمعون على قوله: (وهو معكم) يعني: بعلمه، كما قال الإمام أحمد في قوله جل وعلا: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:٧] ، يقول: إنه العلم؛ لأن الآية بدأت بالعلم وختمت بالعلم، ((أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ)) ، ثم قال: ((إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)) ، فختمها بالعلم كما بدأها بالعلم، فدل ذلك على أن المقصود بقوله: (وهو معكم) أي: بعلمه، وهكذا يقول غيره من الأئمة، ولكن ليس معنى هذا أن المعية هي العلم، ليس هذا المراد، ولكنهم بذلك يردون على الجهمية ومن سلك مسلكهم؛ لأن الجهمية كما سبق انقسموا إلى قسمين: القسم الأول الذي ذكرناه: أنهم قالوا: إن الله في كل مكان.