حديث الجارية رواه مسلم، ورواه غيره، وهو حديث ثابت في الصحيح، وهو يدل على جواز السؤال عن الله بأين، وأهل البدع يشنعون على أهل السنة ويسمونهم الأينية، يعني: أنهم يثبتون الأين لله بالسؤال عنه، فينبغي أن يسألوا من الذي أثبت هذا؟ هل هم أهل السنة من ذات أنفسهم أو أنهم يقتدون بسيدهم وبنبيهم صلى الله عليه وسلم؟ لا شك أن الذي يرد هذا يرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفيه أن علو الله ثابت في الفطر، فهذه الجارية بفطرتها أخبرت بما انطوى عليه قلبها من الإيمان والفطرة التي فطر الله عليها عباده، فهذا علم يثبت في النفس وتميل إليه وتريده كما أنها تريد اللبن، فإن المولود وقت وضعه يطلب اللبن بفطرته، فكذلك الفطرة على وجود الله وأنه فوق، وهذه الفطرة قد يغيرها المربي.
(قالت: في السماء) سبق أن (في) بمعنى (على) يعني: على السماء، وهذا أمر واضح، وإن قدر أن (في) على بابها فيكون المقصود بالسماء: العلو، والمعنى: أن الله في العلو.
وقوله:(من أنا؟ قالت: أنت رسول الله) ، وفي رواية أنها أشارت إلى السماء أيضاً وقالت:(أنت رسول من في السماء) ، فالله جل وعلا في السماء، وهذا أمر ثابت بالعقل والفطرة والشرع: ثم قال صلى الله عليه وسلم: (اعتقها فإنها مؤمنة) ، وفي هذا دليل على أن الإيمان شرط في العتق؛ لأنه قال:(اعتقها فإنها مؤمنة) فجاء الحكم مرتباً على ما سبق بالفاء، وهذا يدل على أن هذا علته، ولو تخلف ذلك تخلف الحكم؛ ولهذا قال:(فإنها مؤمنة) ، فالذي يثبت أن ربه في السماء يحكم بأنه مؤمن.
وفي هذا دليل على أن الواجب على العبد معرفة الله جل وعلا بالفطرة وبالوحي، وليس كما يقول أهل الضلال أنه يعرفه بالشك أو النظر أو القصد للنظر، ثلاثة أقوال عندهم، وهي أقوال باطلة، بل قال بعض العلماء: إنها كفر، لماذا؟ لأن هذه الأمور لا يعرفها سادات الخلق من الصحابة وأتباعهم، وإنما جاء بها الجهمية وأضرابهم من معتزلة وأصحاب الكلام، والمشكلة أن هذا بقي عند الأشاعرة كما هو موجود في كتبهم، وحاول كثير من أئمتهم إبطال هذه الدعوة فقال: هذه مسألة بقيت في المذهب عن المتكلمين، وليست هذه فقط التي بقيت في مذهب الأشاعرة من المتكلمين، بل بقيت مسائل كثيرة جداً، ولكن أنكرت هذه لظهور بطلانها ووضوحه.
وفي هذا الحديث -كما تقدم- جواز السؤال عن الله بأين هو؟ وقد سئل عنه الرسول صلى الله عليه وسلم وأجاب كما روي أنه قيل له: أين كان ربنا قبل خلق العرش وقَبل خلق السموات والأرض؟ قال:(كان في عمى، فوقه هواء وتحته هواء) ، وكلمة عمى هذه رويت بالمد والقصر، فإذا كانت بالمد (عماء) فقالوا: معناها السحاب الرقيق كما جاء ذلك في القرآن: {هل يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ}[البقرة:٢١٠] ، ويكون المقصود: أي: كان في ظلل من الغمام، وإذا كانت بالقصر (عمى) فمعنى ذلك أنه شيء لا يعلم، أي: أنه أمر لا يعلمه إلا هو جل وعلا، وليس في هذا متمسك لأهل الباطل الذين يقولون: كان الله ولا مكان، وهو الآن على ما كان عليه قبل خلق المكان، تعالى الله وتقدس، فإن هذا من اختراعهم ومن بدعهم، والذي يقول: إن هذا الكلام حديث فقد أبعد عن الصواب كثيراً، فليس ذلك حديثاً، وإنما هو قول أهل البدع.
وفيه أنه يكتفى بالحكم بإيمان الإنسان أن يؤمن أن الله جل وعلا ربه، ومقتضى ذلك أنه معبوده، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حق، والصواب أن هذا هو أول ما يجب على الإنسان.